اختزال السرد وطغيان الصورة عند عتيق رحيمي

ثقافة 2021/02/28
...

  رشا الربيعي
 
 
تعاني المرأة في مجتمعات العالم الثالث ومنذ أزمنة بعيدة من هيمنة ذكورية شبه مطلقة لا تسمح لها بامتلاك أدنى قدر من الحرية حتى داخل منزلها، إذ تكون السلطة البطريركية حاضرة وبقوة متجسدة عبر الأب أو الأخ الذي يتولى الهيمنة على نساء بيته وصولاً لأمه، حتى وإن كان مجرد ذَكر لا ذِكرَ له في الحياة سوى التباهي برجولة واهية، ليحل بعد ذلك الزوج والذي غالباً ما يدخل منظومة الزواج وهو لا يعي شيئاً فيها ولا يهمه ذلك 
سوى كونه الإله الأرضي الآمر الناهي، وأن حدث وصارحته زوجته بما يعتمل داخل نفسها من تساؤلات عن المرأة وأحقيتها بالحياة وعن مفهوم الشراكة في منظومة الزواج ورغباتها الخاصة به كذكر، فستكون نهايتها حتماً إما الطلاق ووصمها بالعاهرة أو القتل كبطلة حجر الصبر.
عتيق رحيمي كاتب أفغاني ومخرج سينمائي ولد في كابل عام 1962، غادر بلاده متجهاً إلى فرنسا بعد الاجتياح السوفيتي لأفغانستان، ليكمل دراسته في باريس حاصلاً على شهادة الدكتوراه في الاتصالات البصرية. يكتب رحيمي باللغتين الفرنسية والفارسية وحازعام 2008 على جائزة الغونكور الجائزة الفرنسية الأدبية الأبرز عن روايته "حجر الصبر".وفي عام 2010 حاز على جائزة الادب الفارسي في إيران عن روايته الأرض والرماد.
(حجر الصبر) رواية عن الوجع الذي يهزك، يقلب كيانك حتى يغيرك تماماً فلا تعود أنت، أنت بعدما تنتهي من قراءتها، بدءًا من العنوان عتبة النص الأولى الذي يدعوك للتوقف عنده كثيراً، فوفقاً للميثولوجيا الفارسية والأسطورة الأفغانية هنالك حجر أسود عتيق يسمى "حجر الصبر" ينصت لك وأنت تشكو له همومك وآلامك المستديمة ليخلصك منها ثم ينفجر متفتتاً إلى اجزاء صغيرة. ثم الإهداء الذي يشي للقارئ بما سيواجهه في هذه الرواية من ألم: إلى "ناديا إنجمان"، الشاعرة الأفغانية التي قتلها زوجها الأستاذ الجامعي عام 2005 بعد إصدارها لديوانها الشعري الأول، دخل على أثرها السجن محاولاً الانتحار فيما بعد ولكنه فشل في ذلك، ليدخل في غيبوبة تامة زاره آنذاك عتيق رحيمي في المشفى رغبة منه في معرفة المزيد عن الشاعرة التي سيهديها روايته بعد سنوات معدودة من موتها.
صدرت (حجر الصبر) الرواية الثالثة لعتيق رحيمي بترجمتين للغة العربية عن دار الساقي بترجمة "صالح الأشمر" وعن دار المأمون بترجمة "كامل عويد العامري"، كما وصدرت له كتب أخرى (ملعون دوستويفسكي) و (ألف منزل للحلم  والرعب) و (أرض ورماد).
حوّلت الرواية إلى فيلم سينمائي عام 2013 إخراج وسيناريو عتيق رحيمي، كما وشارك الكاتب والمخرج والممثل الفرنسي الشهير (جان كلود كاريير) في كتابة السيناريو.
تبدأ الرواية بإيقاع بطيء للغاية يسير وفق آلية تنفس حجر صبر البطلة "زوجها" ووقع حبات المسبحة ولكنها لا تشعر القارئ بالملل، على العكس من ذلك فالعبارات الموجزة والمشاهد السردية المصورة بإتقان تبعث في دواخلنا إحساساً كأننا أمام شاشة سينمائية عملاقة تبث حكاية امرأة "مدينة" منذ أن استقبلتها الحياة وهي لم تمنحها شيئاً سوى التعاسة والألم.
الاختزال المكاني: جغرافية المكان محدودة جداً إذ تدور معظم احداث الرواية في غرفة واحدة في منزل متداعٍ عدا بعض المشاهد الأخرى في شوارع افغانستان المنكوبة التي مرّت بها البطلة سريعاً. 
وفي ما يخص شخصيات الرواية فهي تكاد تكون معدودة ولكنها مؤثرة للغاية، البطلة وحجر صبرها، زوجها المجاهد ضد اعداء وهميين لا وجود لهم سوى بعقيدته، فبعد انسحاب جيش الاحتلال السوفييتي من افغانستان ونزاع المسلحين حول السلطة أصابته رصاصة في عنقه أقعدته محولة أيّاه إلى مجرد جثة حية، لا مهمة له سوى الإنصات لزوجته التي كان قد حرمها من أبسط حقوقها معه وهو حق الكلام. 
عمة البطلة أو كما يطلق عليها من قبل أهل زوجها بالمومس أو العاهرة لأنها رفضت تحرش والد 
زوجها بها. 
المسلّح أو كما يسمى بالمجاهد الذي بصق على البطلة بدواعي الشرف وحرمة الدين بعد أن سألها عن طبيعة عملها فأجابته "أبيع جسدي كما تبيعون دماءكم" كي تتجنب رغبته بها بناءً على نصيحة عمتها لها، المجاهد المؤمن الذي يستحرم أن يلامس جسده عاهرة ولكنه يمارس الجنس يومياً مع فتى مشرّد اختطفه من الطرقات، يضع البندقية على كتفه نهاراً، أما ليلاً فيضع الحديد أسفل 
ساقيّه ويجبره على الرقص حسب رغباته. 
الفتى الألثغ الذي يجد نفسه ووجوده مع بطلة الرواية لأنها مستباحة ومهمّشة مثله تماماً ولكنه سيصّب فيها ما خلّفه سيّده فيه من عقد، إذ سيجبرها على ممارسة الجنس معه لأول مرة تحت تهديد السلاح، على خلاف مافعلته حيث احتضنته كما تحتضن الأم صغيرها، روّضته وتفهّمت رغباته واندفاعاته وكانت في ذلك رمزية للمرأة بوصفها صورة حية للحياة والحب 
والسلام.
ترك عتيقي بطلة روايته من دون اسم ليفتح أمام القارئ أفق التأويل على مصراعين، فمن جهة ترمز إلى بلده الأم افغانستان المسلوب الإرادة، المغتصب والمختطف من قبل جماعات مسلحة وانظمة فاسدة، ومن جهة اخرى ترمز إلى الحضور المادي للمرأة الأفغانية المسلوبة الإرادة، وفي تأويل آخر أرادها الكاتب أنموذجاً للمرأة في مجتمعاتنا بصورة عامة وليس في افغانستان خاصة، مؤكداً ذلك في أول صفحة من الكتاب "في مكان ما من افغانستان أو في مكان آخر"، معتمداً بذلك على تقنية الميتا سرد ليمنح بطلة روايته مساحة كاملة للتحدث عن نفسها، رغباتها وأمنياتها في أن تكون سيدة قرارها، عن رؤيتها للوطن والمواطنة وعن مفهومها للإيمان وكيفية تجسيده بقبلة لا بطلقة من فوهة بندقية، كما ورأى عتيقي أن يجعل من بطله الآخر زوجها كحجر الصبر كي يمنح المرأة حرية اعتلاء مسرح الحياة ولو سردياً وجاء ذلك عبر المونولوج.
بلغة رشيقة وعبارات مختزلة نقل لنا عتيق رحيمي مشهدا صوريا متكاملا عن افغانستان، البلاد التي أنهكها الفقر والتشدد الديني والاحتلالات المتتالية والحروب الأهلية، فهل سيأتي يومٌ وتنفض عنها الستارة البالية لتحلق الطيور طليقة؟.