سلطة الجواهري

ثقافة 2021/03/01
...

د. حسين القاصد
 
ينتبه الجواهري إلى آفة خطيرة قام بتغذيتها وشحنها المحتلون كي تزيد من تمزق المجتمع، فحذر الشاعر من آفة التمزق المذهبي والعرقي:
 
ماذا يفيد مثقفون يميزهم
عمن سواهم"مذهبٌ" أو "عنصرُ"
ولمن تُرادُ ثقافة من أمرِها
تبكي البلاد ويضحك المستعمر
وحين يقضي (ساعة مع البحتري) في عام 1929 لا ينسى السياسيين فينهال عليهم بالهجاء:
 
إن الذين على حساب سواهم
حلبوا ملذات الحياة ضـــــروعا
رفعوا القصور على كواهل شعبهم 
وتجاهلوا حقّاً لـــهُ مشــــــروعا
ساسوا الرعية بالغرور سياسةً
لا يرتضيها من يسوس قطيعا
 
وتماشيا مع دأبه في استثمار المناسبة لصالحه، 
نجده يخرج عن غاية اغلب المناسبات التي يشترك 
فيها، وها هو يستثمر انتحار عبد المحسن 
السعدون في تأبينه، فيقول في قصيدة (المجلس المفجوع):
 
                          يا أيها (النواب) حسبكم عُلاًقولي لكـــــــــم يا أيــــها (النوابُ)
تأبى المروءةُ أن يقدّسَ خائنٌ
أو أن يطول على البريء حسابُ
 
ولا ينسى أن يتناول السياسة وأخطاءها في (ذكرى أبي التمن):
 
وروايةٍ حَبَكَ الزمانُ فصُولَهافبدتْ لنا ممسوخةَ الأدوارِ
من شرِّ ما اختلقَ الرواةُ ولُفّقتْ
حيّلٌ وضمتْ دفةُ الأسفارِ
ومفرقينَ مذاهباً وعناصراًمتكلفينَ سياسةَ استعمارِ
نزلوا على حكمِ الغريبِ وعرّسوا
في ظلِّ مأثمةٍ له وفُجـــارِ
 
ويصدح بقصيدته (هاشم 
الوتري) عام 1949 التي ألقاها في الحفل التكريمي الذي أقيم للدكتور هاشم الوتري لمناسبة انتخابه عضوا شرفيا في الجمعية الطبية 
البريطانية ليصب غضبه على المملكة ووزاراتها:
 
أنّي أظلُّ مع الرّعيّةِ مُرهَقـاً
أنّي أظلُّ مع الرعيّةِ لاغبــــا
يتبجّحونَ بأنَّ موجاً طاغيـاً
سدُّوا عليهِ منافذاً ومساربـا
كذِبوا فملءُ فمِ الزمانِ قصـائدي
أبــداً تجوبُ مشارقاً فمغاربـا
تستلُّ من أظفارِهم، وتحُطُّ من
أقدارِهمْ، وتثلُّ مجداً كاذبـــا
 
وهي مواجهة سياسية بين الجواهري 
وخصومه من السياسيين ـ أو من أرادهم خصوما له في قصيدته هذه، لأن اغلب خصومات الشاعر 
ليست دائمية على الرغم من حدتها ـ فما قاله الجواهري هو نوع من الجنون، ولا شك أنه مدرك لهذا، ولقوة تأثيره، وإلا فإن الفعل سيكون انتحارا حقيقيا وليس جنونا، ولقد قطف الجواهري ثمار قصيدته هذه، وصارت ملازمة لكل حديث يتناول اسم الشاعر، وخرجت 
ـ حقا ـ عن مناسبة قولها، لتخلد في ذهن المتلقي لا سيما في قوله:
 
أنا حتفُهمْ ألِجُ البيوتَ عليهمُ
أُغري الوليد بشتمِهمْ والحاجبا
 
وهو ـ في هذه القصيدة ـ مارس السلطة التي سعى للحصول عليها ولم يستطع، وعلى هذا النحو، ووفق بوصلة رغبته بالسلطة، نجده يمارسها من خارج القصر، يمارسها مع الجمهور، فيوقظ الوعي الجمعي، ويحرضه، وإذا كان الجمهور متأهبا نراه لا يتوانى في أن يتصدره.