أنف.. وبروفايل.. ولغة

ثقافة 2021/03/02
...

 د. نصير جابر 
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي قرأت خبرا مقتضبا في إحدى الجرائد عن فنّانة شهيرة تعرضت لحادث سير شوّه جزءا كبيرا من أنفها فلجأت إلى جراح معروف ليصنع لها أنفا جديدا نعم (ليصنع لها) هكذا فهمت أنا الخبر؛ لذا حرصت على متابعتها ومما زاد من دهشتي أنها عادت جميلة  ورجعت تؤدي أدوارها وكأن شيئا لم يكن، وقد كنت أنظر لها بدهشة طفولية ساذجة مراقبا وجهها بدقّة متناهية في محاولة معرفة وتحديد المادة التي صُنع منها الأنف الجديد.
وحينما توغلنا أكثر في عالم الترميم والتجميل وأصبحت عمليات تبديل الأنوف تجري لا لحاجة  مرضية وظيفية بل من أجل التجميل.. التجميل فقط أصبحت أراقب بدقّة أيضا ولكن هذه المرة ليست المادة التي صنعت منها بل ما تصنعه هذه الأنوف حولها من تفاعلات في اللغة والفكر والخيال، فهذه العلميات أنتجت وجوها متشابهة تعطي عند النظر إليها الانطباع نفسه مما جرّنا إلى اشكاليات ستظهر في حيز اللغة أولا، ومن ثم ستستقرّ تراكيب جاهزة في منظومة الفكر، وكلها تدور حول المرأة وعالمها الذي من المفترض جدا أن يكون خاصا فريدا مميزا.
فالأنف الذي له السيادة في الوجه هو من يعطي انطباعات محدّدة عن الشخص، أهمّها التكبّر والغرور والترفّع عن الصغائر، وقد ركّبت العامية  كنايات دالة عن أصناف من النساء منها (خشمها يابس) أو (شايله خشمها)، وفي المقابل حدّدت اللغة ذاتها أفعالا قامعة لهذا التوصيف هي (كسر، فرّك)، فيقال في معرض النصيحة لمن يصادف واحدة منهنّ (المترفعات- المتكبرات- المغرورات).. (افرك خشمها أو اكسر خشمها) وهذا العنف اللفظي له وجوده الواقعي المعروف والمثبّت وتؤيده الأرقام المخيفة التي تراقب حوادث العنف ضد المرأة.. ذات الأنف المميز الدال على الأنفة والشموخ المعبّر بالضرورة عن دواخل الشخصية التي تحاول أن تعطي لوجودها مساحة من التأثير فتواجه بالردع غير المنصف.
يقول العالم الفرنسي بليز باسكال (1623-1662): (لو كان أنف كليوباترا أقصر قليلا لتغيّر وجه العالم كلّه)، ملمحا إلى الانطباع الذي أعطته كليوباترا ليوليوس قيصر وغيره من الملوك والقواد ممّن عرفها وتقرّب منها. 
إنّ ما يهمني هنا ويثير انشغالي هو اللغة ومساحات الابداع المدهشة فيها وما يمكن أن تنتجه بشأن هذا التشابه الحاصل بين النساء وضياع الانطباع  الجميل المؤثر الذي يمكن أن تتركه الوجوه المتعالية من ردّة فعل عند الشعراء والكتّاب، فالتغاضي وعدم الدقّة في نقل المشاعر ازاء الملامح وما يمكن أن تتركه من أثر لا يمكن أن نفترضه ما دمنا نبحث عن نتاج أصيل ونقل الحقيقة بواقعية فوتوغرافية لا يمكن قبوله أيضا.. فما الحل إذن؟ وما هو الحيز اللغوي أو الحقل الدلالي الذي يمكن أن نراه في القصيدة والقصة والرواية الجديدة لحظة دخولها مساحة الوصف أو رسم
 الشخصيات؟.
ومن الجدير بالذكر هنا أيضا أن المرأة التي تخضع لعملية التجميل لا تخفي ذلك في أغلب الأحيان بل تنشر صورها في وسائل التواصل الاجتماعي وهي تخفي نصف وجهها بالضمادات مع نشر عبارات  ساخرة  وهي تطلب من صديقاتها ومتابعيها أن يروها بالأنف الجديد.. الأنف الذي سيغير الكثير في اللغة ومفاهيم الجمال
 والفردانية.