محنة الشعراء

ثقافة 2021/03/02
...

د. أحمد الزبيدي
 
يبدو أن محنة الشعراء في خلق معانٍ جديدة، لم يسبقها إليهم أحد، هي محنة قديمة قِدَم الشعر نفسه؛ وقد انشغل بها من شعر بخطورتها وطبيعتها: شعراء ونقادًا.. فذاك ابن طباطبا العلوي (322هـ) يقول: ((والمحنة على شعراء زماننا في أشعارهم أشدّ منها على من كان قبلهم لأنهم قد سبقوا إلى كل معنى بديع ولفظ فصيح وحيلة لطيفة وخلابة ساحرة، فإن أوتوا بما يقصر عن معاني أولئك ولا يربى عليها لم يتلق بالقبول وكان كالمطروح المملول..)) وإذا كان العلوي قد أدرك محنة المعنى بعد مضي ما يقرب من خمسة قرون على عمر الشعر العربي فإن عنترة الذي شهد عصر تشكل المعاني الشعرية البكر قد أصابته عدوى المحنة. 
إن إشكالية ريادة التشكل الجمالي هي ظاهرة قديمة أزلية؛ يتنافس فيها الشعراء، أو يتفاخرون ويتعاظمون.. وأظن أن الطبيعة الأسلوبية للبناء الشعري العمودي تفضح المحنة وتزيدها اتهامًا بين الشعراء! فالمعنى إن لم يكتمل مع انتهاء البيت الشعري يعد عيبًا بلاغيًا، إذ عليه أن يتم معناه مع آخر لبنة لسانية في البيت، الذي يتمتع بتمويل ذاتي: أسلوبيًا وفنيًا وبلاغيًا ودلاليًا وإيقاعيًا.. ولم يترك النقاد المحنة من دون علاج فاقترحوا: ((إذا تناول الشاعر المعاني التي سبق إليها فأبرزها في أحسن من الكسوة التي عليها لم يعب بل وجب له فضل لطفه وإحسانه فيه)) وماذا عن شعراء زماننا؟ وهل استطاعت (الحداثة) أن تعالج محنتهم المزمنة؟ فالحداثة التي دعت إلى التخلي عن السنن القديمة التقليدية التي تقف عائقًا أمام فردية الإنسان وحريته واحترام ذاتيته بمرجعيات عقلية ومنطقية تناهض الأفكار الرجعية واللاهوتية التي احتكرت الإنسان وسلبت حريته.. الحداثة العربية التي أرادت أن تشتغل في منطقة الشعر كونه الخطاب اللغوي الجمالي الأكثر فاعلية في الثقافة العربية.. إلى أي حد حلّت عقدة المحنة؟! في تصوري أن دعوة الحداثة إلى تشذيب الغنائية والفحولة والشفاهية والدعوة إلى الموضوعية والتأويلية بأساليب جديدة منفتحة على أجناس أدبية أخرى هي رؤية واعية لتغذية الشعر بمعطيات أسلوبية جديدة تحقق فاعلية التكامل الشعري الذي يتوزع بين خلايا النص اللغوية بطريقة دينامية وليست جزئية ذاتية، وهذا ما يجعل المعنى ينبثق من الطبيعة الأسلوبية للبناء النصي أكثر من كونه معنًى مجرّدًا بذاته تفضحه كلمات البيت الواحد.. فما علاقة (مخبر) السياب بـ (مخبر) البياتي؟!، ولكن هل غادر الشعراء المحدثون الغنائية؟! هذه محنة أخرى لم يخبرنا بها
 العلوي.