حسن عبيد عيسى
من المشاريع البحثية الرائدة التي توقفت بوفاته، موسوعة رائدة في مجالها سماها مؤلفها الباحث التراثي عالي الكعب في مجال التراث.. الراحل حسين علي الجبوري (قاموس التراث الشعبي العراقي).. فهذه الموسوعة الباذخة لم يصدر منها غير جزء واحد هو الأول الذي اقتصر على حرفي الألف والباء. ورديفه اﻠﭙﺎء. وهي موسوعة فريدة من نوعها أراد لها الراحل أنْ تكون المرجع الأهم في تراثنا الشعبي كونها نتاج عقل خبر التراث واشتغل عليه طوال سبعين سنة، فالراحل من أسرة مثقفة، مات أبوه المعلم في المدارس الابتدائية تاركاً مكتبة فخمة فيها من الفرائد والروائع ما تهفو له نفوس المثقفين، فاستأثر بها الأستاذ حسين من دون إخوانه الذين زهدوا فيها لعلمهم أنَّ أخاهم الكبير سيصونها ويديمها ويحافظ عليها، وهذا ما كان فعلاً، إذ إنَّ محتوياتها تضاعفت حتى لم يعد طابق كامل في بيت الراحل يستوعبها. ثم انَّ الراحل الذي نشأ مثقفاً بتأثير تلك التنشئة الطيبة، ما أنْ تخرج في دار المعلمين العالية سنة 1959 حتى وجد نفسه يجوب آفاق الوسط الشعبي المفعم بالتراث الخالد والمتخم بالموروث الجميل، لذا راح يملأ كناشاته بفرائد ذلك الفيض الذي أملاه عليه الوسط الذي انغمس فيه وعايش أهله يستنطق العجائز ويراقب الصنّاع والمزارعين وسواهم ويتمعن في العمارة والأزقة والوسائل والوسائط والألعاب والأدوات، يكتب كل ما يسمع وكل ما تقع عليه عيناه، ناهيك عن ذلك الكم الهائل الذي اكتسبه من معايشة أب مثقف والأسرة ذات الوعي الثقافي، وما أغناه من خلال مطالعاته الغزيرة في مجال التراث عربيه وعراقيّه. جعله ذلك الترصد الذكي والمتابعة الدؤوبة كنزاً من كنوز التراث، فالكناشات التي بلغ تعدادها المئات امتلأت بكل ما يفيد، وراح العقل النبه يختزن ويحلل ويربط، وفاض الكم الوفير مما خزن فيهما، لذا راح يحبّر الدراسات والأبحاث المكتوبة بلغة باذخة لا يحسنها سواه إلا القلة، فهو مدرّس لغة عربية، واختار حقلاً من حقول التراث لينبت فيه غرسه ألا وهو مجلة التراث الشعبي التي عاصرها منذ إصدارها الأول حتى تصدّر كتّابها على مدى عقود، وما زاد عن ذلك فإنه بعث به الى مجلة الجيل التي انبهر رئيس تحريرها مازن البندك بمستوى ما بلغه من دراسات الراحل وراح يطالبه بالمزيد، وبعد خمسة عشر كتاباً عدا ما أشرنا إليه من دراسات في مجلات التراث العربي والمأثور الشعبي العراقي، وجد الراحل وكنت شاهد ولادة ما وجد.. أن يتهيأ لإعداد موسوعة تجمع شتات هذا التراث الغزير والذي يستمد نسغه الصاعد بواسطة جذور عميقة تصل الى حضارات سومر وأكد وآشور وسواها من حضارات أغنت البشرية بكل ما هو تليد.
لقد شرع الفقيد باختيار مداخل موسوعته الكبرى مالئاً منها ملفات كثيرة حفلت بها رفوف مكتبته العامرة، حتى وصل الى النقطة الزاهية عندما أتم إنجاز الجزء الأول منها والذي اقتصر على ما ذكرنا من حروف، فسافرنا معاً ليضع مخطوطة الجزء بين يدي مدير الدار العربيَّة للموسوعات الذي تلقفها فرحاً، وذاك الفرح وليدة خبرة الكتبي المثقف التاجر.
وإني لأتذكر الفرح الغامر الذي فاض بالراحل وهو يتسلم النسخ الأولى من هذا الجزء، إذ شرفني بإهدائي أولاها مطرزاً بعبارة يحق لي أنْ أفخر بها ما حييت، فهو لم يكتف بذكر اسمي في أعطاف مداخل الجزء، وإنما أشار لمساهماتي المتواضعة في عبارة الإهداء، وتلك سمة للراحل سبق لي أنْ أشرت إليها حيثما تكلمت وكتبت عنه.. فهو وقد تجرد من الأنا، فقد امتلأ بشعور مرهف بالمسؤولية تجاه مصادر معلوماته من الأشخاص، يشير إليهم في المتن ويشرح سيرهم الذاتية في الهامش، فالأمانة العلميَّة عنده شيء مقدس.وعندما يقلّب القارئ صفحات هذا الجزء ليطلع على طبيعة هذا المنجز الرائد في مجاله، فإنه سيلمس حجم الجهد الهائل الذي بذله الراحل في الجمع والتوثيق والتصنيف والتحليل حتى صارت كل مفردة وما تحتها تحفة نادرة تليق بتراثنا الشعبي. فهو لم يقف عند التناول الشعبي للمفردة، وإنما يغوص في امتداداتها التاريخية وتصاريفها اللغوية وجذورها الحضارية ومحيط تداولها الجغرافي ويمارس عليها خبرته في اللغة الانكليزية ما يجعله يتابع المفردة حيثما توقف باحثونا ليعبر جدار الحضارات الأخرى.
كل ذلك مصاغ بلغة رصينة جذابة تمتع القارئ وتعلمه، فيها المفردة الجميلة والصياغة اللغوية الأخّاذة، أدري أنَّ كماً وافراً من باقي أجزاء هذه الموسوعة مكتوبة بخط الراحل في أضابير وملفات ضخمة تحتويها مكتبته الفخمة، إلا أنَّ أي متصدٍ لها سوف لن يبلغ ما بلغه الراحل من حيث التوظيف الرائع والاستثمار المفيد.
بقي أنْ نشير الى أنَّ هذا الجزء الذي صدر سنة 2018 عن الدار العربية للموسوعات ببيروت بسبعمئة وعشرين صفحة، وتجليد فني، معروضة في المكتبات ومتاحة لمن يرغب التمعن والاستفادة والاستمتاع بتراثنا الشعبي العراقي العتيد.