جاسم عاصي
لم يكن العمر قصيراً سيدي ومعلمي وملهم ذاتي، بل كان طويلاً، منذ أنْ كان صحبي (فائق حسين، ومنير علوان) وآخرون نجلس على كراسي الدراسة عام 1961 وأنت تجلس على آخر رحلة في الصف لتنصت إلى ما نقرأ في دفتر الإنشاء ما زلت أحتفظ بدفتري حتى هذه الساعة، معيداً قراءة عناوين الموضوعات (استيقظت فجأة في الصباح فوجدت نفسك حشرة/ حذائي القديم/ أوراق الخريف)، وغيرها من مفاتيح فك اللغز الذي يحيطنا، وينشّط خيالنا ويدفعنا إلى البحث عن وسائل الارتقاء بملكاتنا المضمرة. هل كنت تبوب ملكاتنا باتجاه الصياغات الغريبة والمدهشة، وأنت تعرف جيداً قدراتنا الذاتية. وإمكانياتنا على التخيّل. حسبتك سترافقنا على طول الزمن لكي تعيد خلق شعورنا بجمال اللغة، وإمكانية الوصول بنا إلى حد أوسع مساحة. فتأكيدك على القراءة والانتقاء، خير ما شعرت به من بعد طول المدة، فقد عرفت شخصية (سامسا) عند كافكا في (المسخ)، فعرفت أي السُبل تركتها لنا لكي ندخلها. لكن إرادة الزمن سحبتنا كلاً إلى اتجاهه. ثقلت الأزمنة، وزاد حملي من عبء الوصول عبر النهل من سبل المعرفة. كنت تبحث وتواصل البناء، تاركاً لنا فرصاً تأكدت من انفتاحها وإتاحتها لمجالات واسعة كي نبني ما رسّخت من عناوين موضوعات في ذاكرتي. وحين التقينا صدفة ونحن نعبر من إشارات المرور، توقف فجأة أخي الراحل الشاعر (عدنان الغزالي) كي تعبر نحونا. وحين استقر بك المقام على الرصيف وشاهدت صديقك، استقبلته بحفاوة، بينما سارع لتقديمي للتعارف، إذ سارعت بالقول: إني أعرفه جيداً. استغربت وقتها، وسألت: كيف تعرفني؟ سارعت للقول: منذ عام1961، بل منذ غرفة الصف في متوسطة الجمهورية في مدينة الناصرية. ابتسمت بفرح وسألت ثانية: وهل كنت مدرساً فيها؟ قلت: كنت طالباً وأنت مدرس اللغة العربية. وسرنا في شارع طويل تجمعنا الدهشة، وأنت تزيد من أسئلتك، وأنا أُجيب، فأحسست بمقدار الدهشة الملغمة بالفرح، خاصة حين تدخل صديقي عدنان، معرفاً بما توصلت إليه بعد جهد طويل، فعرفت أني أديب ولي إصدارات في القصة. بادرت على عجالة: يعود الفضل لك يا أُستاذي، ولمعلمي الأول في الصف الرابع الابتدائي (فاضل عباس الكاتب) وقصة الراعي الطماع. من بعد ذلك توطدت العلاقة بيننا، فاقتربت منك واقتربت أنت مني، فكانت مكتبتك في البيت، ودكان القماش أفضل الأمكنة المفعمة بنكهة استقبال ابنيك (تغلب ووائل) اللذين تربيا على سر أبيهما في الكرم وحسن السيرة، بل أترقب وجودك داخلها. كثرت الزيارات، وتعددت المشاريع، فرحت تستعين برأيي في ما تكتب، وأستنير برأيك في كتابات، حاصة ضمن اختصاصك في الثقافة الشعبية. قدمتك في أكثر من أُمسية في المنتديات الثقافية، وكان وجودنا معاً مفيداً كما ذكر الجميع. نقدم في ليالي رمضان المحاضرات في بيت (عبد الأمير) والد الصديق (صباح أبو دكّة)، طرحنا من خلال الجلسات جملة بحوث في الثقافة الشعبية، كالمقاهي في كربلاء/ واليهودي التائه مثلاً. وكنت تعضد بحوثي وتوفر لي جذاذات أستفيد منها؟. وحين كنت أسألك: ألم تكن هذه الجذاذات ملكك وناتج بحثك المستمر؟ أجبت: هذا صحيح، لكن بحثك سوف يختلف عن بحثي، فلك أسلوبك ولي أُسلوبي. كان قولك درساً علمني الكثير، وعمّق أداتي البحثية التي كان يباركها باستمرار، خاصة ما نشرته في مجلة التراث الشعبي وصحيفة المدى، وكان يحررها الأُستاذ باسم عبد الحميد حمودي. فرحت سيدي حين رشحتك للمشاركة في المؤتمر الهائل الذي كانت تقيمه مؤسسة المدى الثقافية في أربيل. ووجدتك فاعلاً مشاركاً نبهاً لمجمل ما كان يُقدم في الأماسي والجلسات الطويلة. وفرحك كان أكثر ومن نوع خاص، حين طلبت منك كتاباً لطبعه في مؤسسة سردم في أربيل.كان كتابك (القبلة في شرائع الحب والدين والسياسة)، وقد طُبع بحلة جميلة ومدهشة، ما زاد من فرحك وبهجتك.
كنت تستقبلني في مكتبتك المنزليَّة، وتفتح باب الاستعارة بكل كرم ورغبة في استحصال بحث أو دراسة تُفرحك. كانت المكتبة ملاذنا وملاذ ضيوفنا من المثقفين والمتنورين من رجال الدين. تدعونا ضيوفاً حين يدخل بيتك ضيف ورمز مثقف، نحضر جميعاً (السيد علي الأعرجي، صباح أبو دكَة، عبد اللطيف الياسري، حسن عبيد عيسى، عبد الحسن العامري، الفنان سلمان عبد). سوف لن تُمحى صور كل الأمسيات التي شاركت فيها، أو ترجلت كباحث رئيس، لأنها أساساً جلسات متميّزة ومفيدة، فيها من الثراء المعرفي المحرك للحوار.
سيدي.. بقدر ما كان الزمن طويلاً لعلاقتنا جميعاً، سوف يكون الزمن أطول ونحن نحفظ كل ما صدر عنك. فأنت مدرس مخلص يهمك الوعي أكثر من النجاح المدرسي. هكذا تعلمت منك منذ عام 1961 فكانت مسيرتي في التعليم لا تبتعد عن أهدافك في خلق جيل وأعٍ، أبحث عن قدرات الطالب الذاتيَّة، خاصة حين مارست تدريس مادة التربية الفنية. فقد أديتها كما لو أني متخصص في الفن التشكيلي.
سيدي.. إنك مدرسة ثقافية، وسوف تبقى دليلاً لنا ما حيينا. اكتسبنا منك، وسنُكسِب من نتعرف عليهم بمثل ما كنت سيدي ومعلمي وملهم ذاتي.. هل أقول وداعاً أيها المسافر، فقد بدأت السفر من دون وداع. وهذا يعني سنلتقي بهذا الشكل أو ذاك. فأنت الضمير الحيّ الذي يسكننا.