حجية الرسائل الالكترونية في الإثبات الجنائي

من القضاء 2021/03/15
...

القاضي حيدر فالح حسن
شهد العالم تطوراً هائلاً في استعمال التقنيات التكنولوجية الحديثة في مجال ‏الاتصالات وتقنية المعلومات كاستخدام الحاسوب والهواتف النقالة الذكية ‏ومواقع التواصل الاجتماعي، عبر شبكات الاتصال وشبكة المعلومات الدولية ‏‏»الانترنت»، حتى أضحى العالم بفضلها قرية صغيرة لا تفصله عن بعضه ‏الحدود المعروفة بين الدول، وأصبحت الدول يقاس مدى تقدمها بقدرتها وكفاءتها ‏في التعامل مع أجهزة الاتصال الحديثة في شتى مجالات الحياة، إلا أن هذه ‏النعمة قد رافقتها نقمة وهو الاستخدام غير المشروع لتلك التقنيات، فظهرت ‏جرائم جديدة لم تكن معهودة من قبل ولكنها ترتكب بواسطة وسائل ‏الاتصال الحديثة، وهي الجرائم الإلكترونية كجرائم انتهاك قواعد معالجة البيانات ‏الشخصية والإرهاب الالكتروني والاحتيال الالكتروني والسب والقذف والتهديد ‏وغيرها من الجرائم، التي ترتكب عبر مواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك، ‏الانستغرام، التليجرام، التويتر، وي تشات، الفايبر، الوتساب وغيرها) ‏بواسطة الأجهزة الالكترونية، كالهواتف النقالة الذكية والحاسوب عبر شبكة ‏المعلومات الدولية « الانترنت» وشبكة الاتصال، وظهر نتيجة لارتكاب تلك ‏الجرائم نوع جديد من الأدلة تتوافق مع طبيعتها وهي «الأدلة الإلكترونية» إحدى ‏صورها «الرسالة الالكترونية»، والتي يكون دورها في الإثبات الجنائي تارة ‏كدليل على ارتكاب الجريمة كجريمة الزنا الزوجية وطلب الأمور المخالفة للآداب ‏والاحتيال، وتارة أخرى تدخل في تكوين الجريمة، وفي الوقت نفسه دليل على ‏ارتكابها كجريمة التهديد والسب والقذف والتجسس أو إفشاء السر، وقد انقسم ‏الفقه الجنائي بشأن مدى القيمة القانونية للرسائل الالكترونية وحجيتها (قيمتها ‏الثبوتية) في الإثبات الجنائي إلى ثلاثة اتجاهات على النحو التالي:  ‏
الاتجاه الأول: نظام الإثبات المقيد أو ما يطلق عليه نظام الأدلة القانونية، الذي ‏يحدد المشرّع فيه سلفاً الأدلة القانونية ومنها الرسائل الالكترونية وحجيتها في ‏الإثبات الجنائي، ويقتصر دور القاضي الجنائي على توافر الدليل والتأكد على ‏الشروط القانونية التي حددها المشرع، وتبنى هذا الاتجاه القوانين ذات الصياغة ‏الانكلوسكسونية كالقانون البريطاني والقانون الأميركي والقانون الكندي. ‏
الاتجاه الثاني: نظام الإثبات الحر أو ما يطلق عليه نظام الأدلة الاقناعية، الذي ‏في الأصل لا يحدد فيه المشرّع الأدلة الجنائية على سبيل الحصر ويترك تقدير ‏حجيتها للقاضي الجنائي، وتبنى هذا الاتجاه القوانين ذات الصياغة اللاتينية ‏كالقانون الفرنسي والقانون المصري والقانون الجزائري.‏
الاتجاه الثالث: نظام الإثبات المختلط الذي يقوم على المواءمة بين نظام الإثبات ‏المقيد ونظام الإثبات الحر، الذي يحدد المشرع فيه سلفاً الأدلة القانونية ويترك ‏للقاضي الجنائي تقدير حجيتها، وتبنى هذا الاتجاه القانون الياباني والقانون ‏اليوناني والقانون الشيلي. ‏
وقد تبنى المشرّع العراقي الاتجاه الثاني هو نظام الإثبات الحر الذي أورد الأدلة ‏الجنائية في المادة 213 / أ من قانون أصول المحاكمات الجزائية على سبيل ‏المثال لا الحصر، إذ نصت «تحكم المحكمة في الدعوى بناءً على اقتناعها الذي ‏تكّون لديها من الأدلة المقدمة في أي دور من أدوار التحقيق أو المحاكمة، وهي ‏الإقرار وشهادة الشهود ومحاضر التحقيق والمحاضر والكشوف الرسمية الأخرى ‏وتقارير الخبراء والفنيين والقرائن والأدلة الاخرى المقررة قانوناً»، لذا تكون ‏الرسائل الالكترونية التي ترسل بواسطة وسائل الاتصال الحديثة كالحاسوب ‏والهاتف النقال ومواقع التواصل الاجتماعي، فضلاً عن البريد الالكتروني عبر ‏شبكة المعلومات الدولية «الانترنت» أو شبكات الاتصال ‏SMS‏ وفق الاتجاه ‏الذي تبناه المشرع العراقي من الأدلة المقبولة قانوناً، ولم يحدد حجيتها وترك ‏تقدير قيمتها الثبوتية للقضاء الجنائي العراقي، شأنها شأن باقي الأدلة الجنائية ‏الأخرى سواء كانت موقعة الكترونياً أم غير موقعة من قبل الجاني.
 وقد عدَّ ‏القضاء الجنائي العراقي الرسائل الالكترونية من خلال أحكامه دليلاً كتابياً ‏الكترونياً، ومن الأدلة المعززة وهي غير كافية في تكوين قناعة المحكمة في ‏الحكم بالإدانة ما لم تتساند وتتعاضد مع الأدلة الأخرى، كالاعتراف أو الشهادة  ‏أو أي دليل قانوني آخر معتبر، وتشكل مع غيرها من الأدلة سبباً للحكم ‏الجزائي، لأن الرسائل الالكترونية المرسلة عن طريق الهاتف النقال أو مواقع ‏التواصل الاجتماعي، ليس من السهولة ثبوت صدورها إلى مرتكبها الجاني ما لم ‏تعزز بأدلة أخرى، إذ يكون الجاني غير المشترك صاحب السيم كارد الرسمي ‏المسجل في شركة الاتصالات، إذ عادةً في الجرائم التي ترتكب بالرسائل ‏الإلكترونية يصدر قرار من قاضي التحقيق بمفاتحة شركة الاتصالات للهواتف ‏النقالة، بعد الاستماع إلى أقوال المشتكي لمعرفة المشترك صاحب السيم كارد ‏‏(الشريحة) التي أرسلت منها الرسالة الإلكترونية. إذ قد يتبين أن المشترك ‏صاحب السيم كارت قام بإعطاء هاتفه النقال إلى شخص آخر الجاني، أو غيره ‏لغرض استخدامه في الاتصالات أو قيام الجاني بسرقة الهاتف النقال أو  بالعثور ‏عليه بعد فقدانه من صاحبه، أو يقوم الجاني بتزوير عقد الاشتراك من خلال ‏تزوير المستمسكات الشخصية للمشترك وانتحال صفته، أو يقوم بإدخال بيانات ‏غير صحيحة عن صفحته في شبكات التواصل الاجتماعي (كالاسم والسن ‏والجنس والبريد الالكتروني... إلخ) بشكل غير دقيق أو مخالف للواقع لدرء ‏الشبهات عنه.‏