القاضي حيدر فالح حسن
شهد العالم تطوراً هائلاً في استعمال التقنيات التكنولوجية الحديثة في مجال الاتصالات وتقنية المعلومات كاستخدام الحاسوب والهواتف النقالة الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي، عبر شبكات الاتصال وشبكة المعلومات الدولية »الانترنت»، حتى أضحى العالم بفضلها قرية صغيرة لا تفصله عن بعضه الحدود المعروفة بين الدول، وأصبحت الدول يقاس مدى تقدمها بقدرتها وكفاءتها في التعامل مع أجهزة الاتصال الحديثة في شتى مجالات الحياة، إلا أن هذه النعمة قد رافقتها نقمة وهو الاستخدام غير المشروع لتلك التقنيات، فظهرت جرائم جديدة لم تكن معهودة من قبل ولكنها ترتكب بواسطة وسائل الاتصال الحديثة، وهي الجرائم الإلكترونية كجرائم انتهاك قواعد معالجة البيانات الشخصية والإرهاب الالكتروني والاحتيال الالكتروني والسب والقذف والتهديد وغيرها من الجرائم، التي ترتكب عبر مواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك، الانستغرام، التليجرام، التويتر، وي تشات، الفايبر، الوتساب وغيرها) بواسطة الأجهزة الالكترونية، كالهواتف النقالة الذكية والحاسوب عبر شبكة المعلومات الدولية « الانترنت» وشبكة الاتصال، وظهر نتيجة لارتكاب تلك الجرائم نوع جديد من الأدلة تتوافق مع طبيعتها وهي «الأدلة الإلكترونية» إحدى صورها «الرسالة الالكترونية»، والتي يكون دورها في الإثبات الجنائي تارة كدليل على ارتكاب الجريمة كجريمة الزنا الزوجية وطلب الأمور المخالفة للآداب والاحتيال، وتارة أخرى تدخل في تكوين الجريمة، وفي الوقت نفسه دليل على ارتكابها كجريمة التهديد والسب والقذف والتجسس أو إفشاء السر، وقد انقسم الفقه الجنائي بشأن مدى القيمة القانونية للرسائل الالكترونية وحجيتها (قيمتها الثبوتية) في الإثبات الجنائي إلى ثلاثة اتجاهات على النحو التالي:
الاتجاه الأول: نظام الإثبات المقيد أو ما يطلق عليه نظام الأدلة القانونية، الذي يحدد المشرّع فيه سلفاً الأدلة القانونية ومنها الرسائل الالكترونية وحجيتها في الإثبات الجنائي، ويقتصر دور القاضي الجنائي على توافر الدليل والتأكد على الشروط القانونية التي حددها المشرع، وتبنى هذا الاتجاه القوانين ذات الصياغة الانكلوسكسونية كالقانون البريطاني والقانون الأميركي والقانون الكندي.
الاتجاه الثاني: نظام الإثبات الحر أو ما يطلق عليه نظام الأدلة الاقناعية، الذي في الأصل لا يحدد فيه المشرّع الأدلة الجنائية على سبيل الحصر ويترك تقدير حجيتها للقاضي الجنائي، وتبنى هذا الاتجاه القوانين ذات الصياغة اللاتينية كالقانون الفرنسي والقانون المصري والقانون الجزائري.
الاتجاه الثالث: نظام الإثبات المختلط الذي يقوم على المواءمة بين نظام الإثبات المقيد ونظام الإثبات الحر، الذي يحدد المشرع فيه سلفاً الأدلة القانونية ويترك للقاضي الجنائي تقدير حجيتها، وتبنى هذا الاتجاه القانون الياباني والقانون اليوناني والقانون الشيلي.
وقد تبنى المشرّع العراقي الاتجاه الثاني هو نظام الإثبات الحر الذي أورد الأدلة الجنائية في المادة 213 / أ من قانون أصول المحاكمات الجزائية على سبيل المثال لا الحصر، إذ نصت «تحكم المحكمة في الدعوى بناءً على اقتناعها الذي تكّون لديها من الأدلة المقدمة في أي دور من أدوار التحقيق أو المحاكمة، وهي الإقرار وشهادة الشهود ومحاضر التحقيق والمحاضر والكشوف الرسمية الأخرى وتقارير الخبراء والفنيين والقرائن والأدلة الاخرى المقررة قانوناً»، لذا تكون الرسائل الالكترونية التي ترسل بواسطة وسائل الاتصال الحديثة كالحاسوب والهاتف النقال ومواقع التواصل الاجتماعي، فضلاً عن البريد الالكتروني عبر شبكة المعلومات الدولية «الانترنت» أو شبكات الاتصال SMS وفق الاتجاه الذي تبناه المشرع العراقي من الأدلة المقبولة قانوناً، ولم يحدد حجيتها وترك تقدير قيمتها الثبوتية للقضاء الجنائي العراقي، شأنها شأن باقي الأدلة الجنائية الأخرى سواء كانت موقعة الكترونياً أم غير موقعة من قبل الجاني.
وقد عدَّ القضاء الجنائي العراقي الرسائل الالكترونية من خلال أحكامه دليلاً كتابياً الكترونياً، ومن الأدلة المعززة وهي غير كافية في تكوين قناعة المحكمة في الحكم بالإدانة ما لم تتساند وتتعاضد مع الأدلة الأخرى، كالاعتراف أو الشهادة أو أي دليل قانوني آخر معتبر، وتشكل مع غيرها من الأدلة سبباً للحكم الجزائي، لأن الرسائل الالكترونية المرسلة عن طريق الهاتف النقال أو مواقع التواصل الاجتماعي، ليس من السهولة ثبوت صدورها إلى مرتكبها الجاني ما لم تعزز بأدلة أخرى، إذ يكون الجاني غير المشترك صاحب السيم كارد الرسمي المسجل في شركة الاتصالات، إذ عادةً في الجرائم التي ترتكب بالرسائل الإلكترونية يصدر قرار من قاضي التحقيق بمفاتحة شركة الاتصالات للهواتف النقالة، بعد الاستماع إلى أقوال المشتكي لمعرفة المشترك صاحب السيم كارد (الشريحة) التي أرسلت منها الرسالة الإلكترونية. إذ قد يتبين أن المشترك صاحب السيم كارت قام بإعطاء هاتفه النقال إلى شخص آخر الجاني، أو غيره لغرض استخدامه في الاتصالات أو قيام الجاني بسرقة الهاتف النقال أو بالعثور عليه بعد فقدانه من صاحبه، أو يقوم الجاني بتزوير عقد الاشتراك من خلال تزوير المستمسكات الشخصية للمشترك وانتحال صفته، أو يقوم بإدخال بيانات غير صحيحة عن صفحته في شبكات التواصل الاجتماعي (كالاسم والسن والجنس والبريد الالكتروني... إلخ) بشكل غير دقيق أو مخالف للواقع لدرء الشبهات عنه.