ياسين النصير
كتب قبل فترة ليست ببعيد في هذه الصفحة عن المدن السماوية والمدن الأرضية، محاولة لتأصيل الجذور المثيولوجية للمدنية، فالمدينة كائن حي له جذوره وأغصانه وجذعه. وخاصة المدن العراقية القديمة التي تشربت بها روح المثيولوجيا عبر حضارات وادي الرافدين المتعاقبة فانتجت ثقافة مكتوبة للعالم، ومن هنا أعد مدينة أور، أكد والوركاء واسن وآشور وغيرها مدنا سماوية لأنها تعرفت على أول الأبعاد الفكرية من خلال اللغة على القوى التي تتحكم بالطبيعة والبشرية، فكانت الديانات العلامات الأولى على هذه السمة فأسست لنفسها قوانينها وثقافتها وكلماتها واساطيرها وتقاليدها وعاداتها اليومية، وتعد هذه النقلة في الوعي البشري بداية التحرر العقلي من الثقافة البدائية التي شهدت أول مكونات الخطاب البشري للسماء من اجل صياغة العلاقة بين الآلهة والبشر صياغة يمكنها ان تربط مدنا ارضية وبشرية بمدن سماوية مفترضة سيكون تحصيلها المثيولوجي ثقافة أسطورية وبنى لسرديات لم تنتهِ.
اليوم لم تعد تلك المثيولوجيا قائمة في عصر العلم والتقنية، ولكنها لم تعدم تلك الرؤية العملية للوعي البشري من أن مدنًا رافدينية أسست اولى مفردات الخطاب البشري، وبنت في ضوء ذلك الخطاب عمرانها وقوانينها وطرائق حكمها وتنظيم العلاقات الحياتية في ما بين سكانها، مما يعني أن علاقة بين السماء والارض لا تتم إلا وفق حاجات بشرية، وقلت في سياق تأكيد العلاقة بين المدن السماوية والمدن الأرضية، من أن الإنسان كان محور هذه العلاقة، كما هو مطورها وباني معابدها وطقوسها وثقافتها، وأن هذه المدن كانت مرتبطة بحاجة الإنسان إلى فهم القوى المبهمة التي تتحكم بالطبيعة والإنسان.
وفي سياق الحاجات نفسها وجدت أن الثيمة الأسطورية والمثيولوجية لم تغب عن مدننا السماوية التي لا تزال مؤثرة في مسيرة حياتنا اليومية، فمدن مثل: أور، مكة، والفاتيكان، النجف، والقدس. ليست مفردات وأسماء للمدن بل هي ثقافات متنوعة حاضرة في كل الأزمنة، وان لكل مدينة هويتها الخاصة التي لا تشبه هوية المدن الأخرى في ترسيخ هذا الحضور، وكأن المدن السماوية لم تكن بهذه الصيغة من دون التعددية الدينية المتشربة عمليا فيها. واذا اعتبرنا مدينة أور هي المدينة الأم، سنجد أن ثيمة التقديس تشكل حاجة بشرية للهيمنة على قوى الطبيعة الغامضة التي كانت تباشر الإنسان بأفعال لم يدرك أبعادها ومصادرها، هذا الوعي البدائي هو شكل من أشكال تطور الوعي البشري للانتقال من العصور البدائية الى عصور العقل، وهذا انجاز كبير عندما تكون الخطابات بين الآلهة والبشر تعبر عن حاجة مشتركة بين بشر يسأل وآلهة تجيب، وكانت المثيولوجيا الرافدينية غنية بهذه الرسائل التي اعتبرت الملاحم والاساطير التكوينية من أوليات المعرفة البشرية بدور الآلهة في صياغة مفردات الحياة اليومية للبشر. اليوم يعاد الوضع المثيولوجي لهذه المدن في ظل ظروف دولية معقدة يكون العراق فيها مركزا بؤريا، تذكر المصادر أن حضارة وادي الرافدين تعد الدائرة الانثروبولوجية السادسة في العالم، وأن هذه الحضارة ستكون نهبا ومدار صراع طويل ومعقد من دول الجوار، وهو ما شهده التاريخ ويشهده التاريخ الحديث، لأن دول الجوار، لا تملك حضارة بعمق حضارة وادي الرافدين، ومن هنا علينا ان نولي زيارة البابا للعراق أهمية التذكير أن العراق يمثل سُرَّة العالم.