استبعاد صانع القوارير

ثقافة 2021/03/17
...

طالب عبد العزيـز 
لم يترك المتشددون الدينيون في شرقنا العربي هامشاً للنخب العلمية والثقافية، في معاينة الحياة، وإعمال العقل واستثمار معاني وقيم الجمال والحرية فيها، فأصروا على أن تمرَّ بكامل مراحلها عبر قناتهم الضيّقة تلك، ضمن منظومة فكرية إنجيلية قاسية، مستغلين النصوص المغلقة والمبهمة أحياناً في الكتب والقراطيس، تسعفهم في ذلك جملة الثوابت المستحكمة في عقول اتباعهم ومريديهم، وبذلك تلكأ المثقفون والمفكرون، أصحاب الافكار الانسانية، والعملية في إيصال ثمرات جهدهم الى مجتمعاتهم، وخابت مساعيهم في تحقيق فردوسهم المنشود، بل، ولم يسلموا -عبر التاريخ- من الملاحقة والتنكيل والقتل أيضاً، وبذلك احبطت المئات من المشاريع والخطط المستقبلية التي تنشد التنمية، والتي وقفت تنادي باحترام الرأي، وتتطلع الى الحياة الكريمة للجميع.
 ما تعاني منه الثقافة من طرد في وجودها، ويقع تحت نيره المثقفون اليوم، لم يكن وليد مرحلتنا هذه، إنما هو نتاج التشدد التاريخي ذاك، وخلاصة مؤسفة لألف وأربعمئة سنة من الاقصاء والنفي للوعي والفكر الحر، الذي مارسته السلطة الدينية، بشقّيها الحاكم والمستثنى من الحُكم، وهذا لا يعني بأنَّ الخليفة المنفتح والمتسامح مع النصوص لم يتعرض لنقد الآخر، القابع في (كهف) الحكمة -هل للحكمة كهف؟- والمتربص بالسلطة .. وهكذا وجدنا أنَّ ما عُدَّ تجاوزاً على النصوص في عصر الخلافة الاموية والعباسية- وهو في الغالب، جزء من آلية الاستحكام والتمسك بالسلطة- قد تعرّض الى نقد ومعارضة الخارج المختلف، صاحب الكهف، المستبعد من لذة الخلافة ذاتها، والذي يجد الحق في تمثيلها وحده من دون غيره أيضاً. وعبر متوالية قاتلة وجدنا السلطة السياسية تستعينُ وتمتدحُ من يسترشد بالنصوص لصالحها، في الوقت الذي ما فتئ فيه الآخر المستثنى يناكدها، ويجرّح في سلوكها، وكلهم، في واقع الحال، يعمل على إلحاق الاذى بالقائم الحقيقي على تأسيس الحياة. قد يُفلحُ رجلُ الدين بغرس شجرة أمل صغيرة في النفس، إذا سلّمنا بوجوب وأهمية الروحي فيها، لكنَّ المعوّلَ في ذلك إنما يقع على صانع الحياة، ومنتج النور، رجل الفكر والتكنولوجيا والمثقف فهو الجدير بصناعتها كاملة، وبتمثلها، وإعادة صوغها بما ينسجم مع المتغير الكوني. 
في زيارة بابا الفاتيكان الاخيرة ولقائه بالسيد السيستاني ثمة من صلّى داخل نفسه وعوّل على اللقاء في تحقيق السلام والطمأنينة على الارض، وبين الناس، وقد ننشد ذلك معه، لكنها تبقى مجرد صلوات وأمنيات، فالرجلان لا يمتلكان عصا سحرية للتغيير، ولن يلجما آلة الحرب إن اندلعت، فحملة الصراعات في الكون أكبر من أنْ تحتويها صلاة ويدفعها دعاء. 
نعم، كلنا بحاجة الى لحظة صفاء روحية خالصة، وكلنا يبحث عن شجرة طمأنينته، لكنَّ الحكمة تقول: "الطين مجرّد وحل خارج يدي صانع القوارير".