القباحةُ في الأدب

ثقافة 2021/03/18
...

موج يوسف
تظهرُ تجليات العاهة التي توشم بالجسد على الألفاظ والتصرفات الذاتية، فحتى مع الآخر تنشأ علاقة متضادة، لا سيما أن كان الآخر المجتمع النابذ للقباحة، ولو عدنا إلى التاريخ الثقافي والحضارات القديمة لوجدناه يعج برفضه للقبيح، يبقى السؤال الجوهري هل إعاقة الأديب أو العاهة تؤثر في أدبه؟ إذ تفحصنا أدبنا العربي القديم نجد ألقاباً أو مسميات اطلقت على الشعراء بسبب عاهات عندهم، فالأعشى الشاعر الجاهلي سمّي بذلك لقصر نظره أو لعدم رؤيته في الليل، لكن شعره زخرَ بصورٍ مرئية كقوله:  
                                   كأنَّ مشيّتها من بيت جارتها  
مرّ السحابة لا ريثٌ ولا عجل
وكأنّ العشو لم يأثر في خياله ولا يشوّه شاعريته،  وربما هذه المشاهد المرئية ذات الصور الحركية جاءت بمثابة تعويض عمّا يعاني منه، بينما الشاعر الحطئية قد اصطبغ شعره بقباحة الهجاء، قد عرف بسلاطة كلماته اللاذعة، والحطئية لقلب؛ لقصر قامته ووجهه القبيح حتى قال عن نفسه في بيت شعري يرفض قباحة شكله: أرى لي وجهاً قبَّح الله خلقه   فقبّحَ من وجهٍ وقبّح حامله. البيت يظهر ثورية الشاعر الذاتية التي رفضت المظهر القبيح، ولا تخفى علينا قصته المشهورة مع الخليفة الثاني عندما سجنه بسبب هجائه للزبرقان، فرونق البلاغة وما تخفيه من عيوب نسقيّة لم يجمل هجاء الحطيئة. ولو قلبنا صفحات الأدب وانتقلنا إلى زمانٍ ومكانٍ خارج الأفق المشرقية، مع ازدهار الفلسفة تأتي (أزهار الشر) للشاعر الفرنسي بودلير بمفارقة كبيرة في أعماله الشعرية، وتكمن المفارقة في قباحة محبوبته، واعتناقه لصافتها البشعة التي تحولت إلى قصائد ذات نزعة إنسانية وجمالية وكأن القبح مهلمة للجمال  وجرده من النسق الثقافي، فيقول في قصيدة حسناء:
 
أيها الناس الفانون أنا جميلة جمال حلم من حجر
ونهداي اللذان لم يسلم أحد من عذابهما
خلقا ليُلهما الشاعر حباً خالداً وصمتاً
             كصمت المادة الخرساء                                                                                                             أني أجلس على عرش السماء كأبي الهول غامض                                                                        النص فيه اعتراف صريح بأن محبوبته تعمل مومساً وهي الملهمة كما أن الشاعر أنطقها، وبين هويّتها، والذي يهمنا أن قباحة المحبوبة تحولت في شعره إلى جمالٍ لا يتغى بالبلاغة وإنما بالفلسفة التي تجرد الحياة من التشوّيه والشر، كما نرى في النّص استحضار الدين والأسطورة، فأعطى هويّة مزدوجة لحسنائه، أي هويّة كونية وبشرية لأنّها تقيم في الحد بين الواقع والحلم . وفي قصيدة بعنون (جيفة) يقول: 
 
اتذكرين يانفسي الشيء الذي رأيناه
ذات صباح صيفي منعش على منعطف طريق
ضيق هذه الجيفة الكريهة الراقدة على سرير من
حصى ساقاها على الأعلى كالمرأة الشبقة
 
النص فيه فروقات بين القباحة والجمال عبر الشمّ، فقد رسم لوحته الشعرية بلون تظهر فيه الرائحة بشكل أساسي، فقد وظف كل الكلمات المتعلقة بالشمّ، فحداثة القصيدة عنده هي بالاستغناء عن البلاغة الصورية والاتكاء على حاسة الشمّ وتجريدها من أريج العطر، فهو أعطر لأزهار الشر رائحة في هذه القصيدة،  ويقول في أخرى بعنوان الظلمات:           
                                 
كأني رسامٌ حكم عليه إله ساخر
             أن يرسمَ وا أسفاه  على لوحة الظلام                                                                                   
أو طباخ مأتمي الشهية يعكف على سلق قلبه ليقتات به .                                                                                            القارئ لجملة ( يعكف على سلق قلبه) يشعر وكأنه خارج من مشرحةٍ بشرية، لكن شغف بودلير في إثارته لمشاهد مرئية قبيحة في شعره، ومدى اعتناقه للرعب والأذى . فحتى القارئ لومياته يرصد عشقه لندبات الجدري في جسد حبيبته . بودلير يتسلق سلم القباحة ويوظفها في أدبه وشعره لتصل رسالته الإنسانية، ولا ننسى أن الأدب يساعدنا على فهم الحياة وكلما أحسن الأديب أو الكاتب صنعه تماماً منحه الخلود . فهذا القباحة أو الخروج عن النمط الجمالي في الأدب والفنون ما هو الا تحطيم الحدود بين الذات والآخر، والانصهار مع الكون والوجود . وقابحة الأدب تكمن في أمور أخرى كالكتابة ذات المفردات الفظة، والسجينة في البلاغة المعيارية، وفوضوية الفكرة و... الخ أمور تتطلب وقفة طويلة.