العزيز انطوان تشيخوف

ثقافة 2021/03/18
...

لؤي حمزة عباس

تحيّة طيبة
لم أتخيل يوماً أن بإمكاني أن أكتب لك رسالة أخاطبك فيها بـ "العزيز انطوان تشيخوف"، وها أنا أنشغل بما لم أتخيله من قبل وأحدثك عنك وعن أثر أدبك العظيم في حياتي وكتابتي، وعما تركته من نور فيهما منذ قرأت قصصك القصيرة بحسها الإنساني العميق وحكمتها الساطعة، بمناسبة النور لم أتصوّرك تكتب تحت بقعة كافية منه، ربما تحت تأثير ما نحمل من صور نمطية للقرن الثامن عشر أو امتداد لإحساسنا بقصصك التي ترعى عوالمها في نور شحيح، وقد شغلت بعوالم القرية الروسية وأناسها الظليين الذين اتخذوا من المناطق شبه المعتمة بديلا عن أنوار الحياة الساطعة، أو هكذا قضت وقائع حياتهم أن يكونوا، يولدون في الظل ويكبرون في الظل، وفي الظل يعملون ويعشقون ويتزوجون وينجبون، يحيون ويكدحون، يعيشون أفراحاً صغيرة عابرة وفي النهاية يموتون، تحدثهم أنفسهم أحياناً، كما تحدّث البشر جميعاً نفوسهم، فيعصون ويخونون ويسرقون وأحياناً يخرّون راكعين في زوايا بعيدة، شحيحة الضوء، لا يراهم فيها أحد، ولا يسمع أصواتهم أحد، يصلّون ويتهجدون بانتظار اللحظة الكاشفة، إنهم ينخرطون في قصصك وهي تجعل منهم نماذج كفيلة بالتعبير عن الكوامن البعيدة للإنسان، أفكّر أحياناً بعوالمك القصصية وعاطفتك النبيلة أزاء ما تقص، محاولا استعادة إحساسي بدخولي الأول لعالمك كما لو أستعيد إحساسي بعطر قديم، إن أناس قصصك لم يولدوا إلا من أجل لحظتهم الفارقة تلك، وأن حياتهم بغير كتابتك ضرب من الهباء!.
مع قصصك تعلمت كيف بإمكان القصة القصيرة أن تكون وسيلة لتدوين هواجس الإنسان الصعبة، والتقاط ما تطلقه مياهه الداخلية من إشارات لترجمة حيرته في وجود لم يقدّر له فهمه أوإدراك غاياته، كلَّ قصة من قصصك قرأتها تركت في نفسي سؤالا، وأظنك تدرك معنى انفجار سؤال في نفس قارئ فتى ينشغل بنسخة قديمة متهالكة من كتاب في غرفة المكتبة المدرسية، أستطيع أن أقول بوضوح بأن قراءة الفتى لقصصك القصيرة من أهم الأسباب التي قادته إلى غابة السرد، وقد آمن أن بمقدور كل إنسان أن يحكي قصته أو قصة سواه من البشر، وأن غابة القصص تتسع وتمتد كلما دخلها طارق جديد، غابة تتسع ولا تضيق.
نخطو الآن في العشرية الثانية من قرن البشرية الميلادي الحادي والعشرين، وقد مرّ على رحيلك عن عالمنا أكثر من قرن، قرن وأربعة عشر عاماً إذا توخينا الدقة، شهدت البشرية خلالها الكثير من المآسي التي وسمت القرن وجعلت منه قرن نكبات ومآس، ابتكر الإنسان خلاله أحدث الوسائل وأكثرها عبقرية لعذاب الإنسان والحط من منزلته واستباحة وجوده وهدر كرامته، الوجوه التي رأيتها وتحسستَ أوجاع أصحابها في جزيرة سخالين بعد رحلة شاقة إلى الشرق الأقصى تكررت على نحو مؤسف بعد حروب مريرة، وأوبئة مستشرية، وكوارث تجعلنا نتساءل عن دور الثقافة والإبداع فــــــي توجيه الإنسان وجهة أقل عنفاً وجنوناً، أكثر تعقلا وإنسانية، كل حرب جديدة، عالمية أو محلية، تجعلنا نعيد السؤال عن دور المعرفة في تعزيز الحسّ بالطمأنينة والتراحم بين الناس، لن نصل إلى جواب شاف كما لم يصل غيرنا ممن سبقنا في طرحه، لكن عدم الوصول لم يمنع البشريّة من الإيمان بدور الثقافة في الارتقاء بإنسانية الإنسان في أصعب العصور وأشدها ظلمة وظلاماً، لذلك فقد أحبك الفتى وقد رآك وسمع صوتك مع كل قصة من قصصك قرأها وآمن بما فيها.
تقبل خالص الود والتقدير