الآثار.. هُويَّة العراق

ثقافة 2021/03/20
...

 أ.د.باسم الأعسم

 
 
تنزه سائح أجنبي في مدينة بابل الآثارية، وبينما هو يسير في شارع الموكب، شاهد بعض العابثين يرمون أعقاب سيجار في الشارع، فاستشاط غضباً وقال: بعربية واضحة للجميع كيف ترمون أعقاب السيجار هنا؟ ألا تعلمون أنها بابلون مركز العالم؟!.
ولا يقاس هذا السلوك غير المتحضر بالانتهاكات التي تعرضت لها مواقعنا الآثارية، كالتخريب والتهريب والسرقة والعبث بجغرافية المكان، والنبش العشوائي والمقصود معاً في سنوات الحرب والحصار خاصة.
وكلما زرت موقاً آثاريا، أو شاهدت تحقيقاً تلفازياً، أو صحفياً عن المواقع الآثارية شعرت بالأسى حزناً على ما آلت اليه شواهدنا الحضارية مثل بابل، التي علمت العالم معنى الكتابة والقانون والفلك، ونيبور العاصمة الدينية والثقافية في العراق القديم، وأور موطن السلالات الأولى، وما تحويه من معابد ومدافن ملكية، ومقبرة شبعاد، ومملكة إيشان. 
وتشير الوقائع الى أن آلاف القطع الآثارية قد هربت الى بعض الدول العربية والأجنبية وفي مقدمتها أميركا، حيث توجد في متاحفها آلاف القطع الآثرية.
إن ثمة مواقع آثارية لم تمتد اليها يد الإعمار، ولم تخصص لها الأموال الكافية للقيام بأعمال التنقيب والترميم، فطالها الإهمال وأضحت كأطلال، كما الحال لدى أور ونيبور وبابل، وستبقى شواخصنا الآثارية عرضة لعوامل الاندثار لعدم الصيانة والاهتمام، في حين ينبغي أن تكون آثارنا معالم تاريخية شاخصة وحواضر سياحية باذخة الجمال والدهشة، ودروسا غنية للأجيال لكي تطلع على مولدات الفكر والأدب والفن والجمال.
إن إعمار المواقع الآثارية يذكر العالم بعظمة التاريخ الإبداعي للإنسان العراقي، ومكانة الرموز الفنية والفكرية التي أنتجت الحضارة وشرعت القوانين، ومن ثم الأبعاد الاقتصادية من جراء استدعاء المنقبين والشركات الاستثمارية لبناء شواخص، حضارية وسياحية تعود بالخير على الجميع. 
لقد ظهر من على إحدى القنوات التلفازية رجل قروي يرعى الأبل ويتغنى بألوانها وسرعة جريها، وفجأة وجد صورة بعير قد رسمها أحد الفنانين على إحدى صخور الجبل الذي يرعى بقربه، فطار من الفرح معتبراً إياها من أعظم صور التراث، بل من التحف النادرة التي تدل على عمق وأصالة حضارتهم وتراثهم المجيد، فقلت في سري ماذا لو رأى هذا القروي آلاف المواقع الآثارية في بلادنا التي جسدت وترجمت منجزات العقل البشري العراقي الخلاق منذ السومريين والبابليين، والاكديين والآشوريين وسواهم؟!.
وأقسم لو أن هذا الرجل قد شاهد موقعاً آثارياً، أو قطعة، أو عدداً من اللقى الفخارية والرسوم المثبتة على جدران مدينة بابل، لأصيب بمس من الجنون لعظمة تاريخ الأجداد، وتفوق العقل العراقي المبدع إبان الحقب الماضية ولم يزل.
إنها دعوة لمن يعنيهم الأمر، لإنقاذ آثار العراق، وصيانتها مما قد اعتراها من إهمال وتقصير، وهي أولى بالدعم والرعاية لأنها هوية العراق الحضارية التي بلغت الآفاق.
ويكفي أن العراق يكنى ببابل لدى الأجانب مما يدل على مكانة بابل التاريخية وعمقها الحضاري،فما الأشكال في أن تتحول المواقع الآثارية إلى منتجعات ومعالم تاريخية وسياحية تجتذب ملايين السياح من كل فج عميق، فتعود على البلاد بسمعة طيبة ووفرة مالية هائلة؟!.
وإذا ما بقيت كتلاً هامدة تذروها الرياح فستفقد ملامحها ورونقها بفعل عوامل الهدم والتعرية والإهمال، وهذا ما نخشاه، لأن تلك المواقع الآثارية تختزن تاريخ وحضارة العراق، ولذلك فإن الحفاظ عليها واجب وطني 
مقدس.