المشروع الكتابي في البحث اللساني

ثقافة 2021/03/23
...

  خالد خليل هويدي
ثمة من يرى أن الباحث الجاد هو الذي يسلك طريق المشاريع الكتابية، وهو سبيل مهم، يتنكبه الفرد من خلال تبنيه أو متابعته نظرية لغوية أو لسانية أو اجتماعية أو أنثروبولوجية، من طريق التأسيس والتنظير والتعريف، لينتهي إلى اختبار صحة فرضيات النظرية؛ عبر إخضاع مبادئها وأفكارها إلى الفحص والاختبار؛ لأن النظرية العلمية كما يرى الدارسون هي التفسير الأفضل للحقائق التي نشاهدها حولنا في الطبيعة، والتي يجري الوصول إليها باستخدام الأساليب العلمية، التي تختبر مراراً وتكراراً وتؤكد باستخدام الملاحظة والتجربة. 
ولاشكّ في أنّ من يسلك طريق المشاريع الكتابية يتمكّن من الحضور المعرفي المؤثر، فضلا عن الخلود بأفكاره، عبر إسهامه في خلق جيلٍ من الباحثين الذين يتأثرون بالنظرية والأستاذ. 
لو نظرنا إلى تشومسكي، فهو كما يصفه الباحثون الوحيد من أصحاب النظريات الذي مازال على قيد الحياة، وهو مازال حاضرًا ومؤثرًا بمشروع كتابي بدأه منذ العام1957، وقد كان حضوره طاغيًا من طريق طلابه، الذين تأثروا بنظريته، والذين دائمًا ما يعيدون قراءة نظرية أستاذهم، ويقدمون له اقتراحات أو تعديلات، يسعى هو إلى تضمينها في نظريته، عبر آلية النماذج التي كانت عماد النظرية. 
أستطيع القول إن المشروع الكتابي، الذي اضطلع به تشومسكي هو الذي جعله مؤثرًا وحاضرًا لأثر من نصف قرن، وربما سيظل هذا التأثير مستمرًا عبر الأجيال التي تأثرت به، والتي تبنّت نظريات جديدة، تعود في جزء من تكويناتها إلى أفكار أستاذهم. 
وفي الحالة العربية، يمكننا التدليل على أهمية المشروع الكتابي، من خلال النظر مثلا إلى جهود علمين أحدهما اعتمد النظرية اللغوية التراثية والآخر  انطلق من فرضيات نظرية لسانية. 
فالدكتور مهدي المخزومي مثلا اعتمد في مشروعه الكتابي على مقولات لغوية تراثية، سعى من طريقها إلى التيسير للنحو العربي، مستغلًا مقولات المدرستين البصرية والكوفية، ولا سيما المدرسة الثانية، وقام في ضوء ذلك في عرض فكرته القائمة على التيسير، وقد تمكّن المخزومي من تحقيق الاستمرارية من طريق خلق جيل من الباحثين، الذين استلهموا أفكاره. 
فالباحث الجاد هو الذي يتكمن من تكوين مدرسة، لها هدفٌ يسعى هو وطلابه إلى التأسيس له، واختبار صحة مقولاته. 
أما النموذج اللساني فيمكن ذكر جهود الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري، الذي قام مشروعه الكتابي على مقولات اللسانيات التوليدية، فعمد أيضًا إلى التنظير لأفكار هذه المدرسة، ومن ثمّ سعى إلى تطبيق مقولاتها على اللغة العربية، وواكب مختلف النماذج التي قدّمتها المدرسة التوليدية، وبقي مؤمنًا بمشروعه ونظريته حتى الآن، وهو ما ساعده كثيرًا في البقاء على الساحة اللسانية من خلال أفكاره، ومن خلال جيل عريض من الباحثين الذين اعتمدوا أفكاره وأفكار النظرية التي آمن بها. 
وحده المشروع الكتابي هو الذي يساعد الباحث في ترك بصماته على خريطة المعرفة؛ والدليل على ضرورة تبني الباحث مشروعًا كتابيًا أن العالمين اللذين ذكرتهما في أعلاه هما اللذان يُساءلان ويحضران عند مناقشة فكرة تتعلق بالنظرية التي انطلقا منها، وفي ذلك آية على صحة فرضية المشروع الكتابي التي يجب أن ينطلق منها الباحث، فهي السبيل الوحيد لخلوده من طريق مساءلة أفكاره، وإعادة قراءتها. 
أما الباحث الذي لا ينطلق في كتاباته من تبني مشروع كتابي محدد، ومؤطر بفرضيات نظرية واضحة، وجهاز اصطلاحي محدد ومضبوط فلن يُكتب لـ (مشروعه) البقاء، الذي يتحقق عن طريق المناقشة والمراجعة؛ لأنه لا يمتلك مشروعًا أصلًا، ومن لا يمتلك المشروع الكتابي لن يحصل على عشبة الخلود المعرفية.