الصورة الحوارية في الشعر

ثقافة 2021/03/23
...

د. حسين القاصد 
 
وهذه الصورة لم يعرفها النقد من قبل، ولم يقترب منها أهل البلاغة؛ حتى إذا مرَّ أحدهم ببيت المتنبي في رثاء جدته :
(هبيني أخذت الثأر فيك من العدا
فكيف بأخذ الثأر فيك من الحمى)
وجد في البيت حيرةً وجدانية وبوحاً دامعاً، ولا ينتبه لآلة تصوير خفية يملكها الشاعر، لتخرج الصورة حقيقية من دون استعارة أو تخييل؛ لكنها على منزلة عالية من الاشتغال الفني.
وقل مثل ذلك في بيت المتنبي في رثاء أم سيف الدولة :
(ولو كان النساء كمن فقدنا
لفضلت النساء على الرجال)
والبيت لا صورة فنية فيه وفق المعايير النقدية والبلاغية؛ لكنه يحمل صورة حوارية، تجعل المتلقي يقف بذهول أمامها من دون الإشارة إلى أن صورة شعرية في البيت؛ لأن هذا البيت، مثله مثل الذي ذكرناه آنفا، خالٍ من أدوات التصوير الفني، ولا استعارة ولا تشبيه فيه.
الحوار يغري بالإقناع ويحمل بعض أسلحته المراوغة التي توفّر الإقناع والدهشة معاً؛ وهو ليس جديدا  في الشعر ولا الصورة الحوارية، التي أهملها النقد الأدبي جديدة على الشعر هي الأخرى.
ولعل نزار قباني من أبرع الشعراء الذين اهتموا بالتفاصيل الثانوية الهامشية وابتدعوا منها صورا رائعة؛ فهو يقول في قصيدته ( إلى رجل) :
(وكم تمنيت لو للرقص تطلبني
وحيرتني ذراعي أين ألقيها!)
كلمات البيت جميعها مباشرة، لكن ليس لأي شاعر أن يأتي بهذا العجز لينتقل من الأمنية وطلب الرقص، إلى المرقص مباشرة وينقل حيرة حبيبته بذراعها!، ولعل لأي شاعر أن يسير باتجاه الرفض أو القبول بعد ما جاء في صدر البيت؛ لكن نزار قباني خرج لنا بصورة حوارية مذهلة، واخبرنا بأن الأمنية تحققت من دون أن ينطق كلمة بهذا الصدد؛ بل نقلنا إلى الحيرة بعد الاستجابة.
ولدى نزار الكثير من هذا، ففي قصيدته (أحبك أحبك والبقية تأتي) يقول :
(دعيني أصب لك الشاي،
أنت خرافية الحسن هذا الصباح،
وصوتك نقشٌ جميلٌ على ثوب مراكشية
وعقدك يلعب كالطفل تحت المرايا..
ويرتشف الماء من شفة المزهرية
دعيني أصب لك الشاي، هل قلت إني أحبك؟
هل قلت إني سعيدٌ لأنك جئت..
وأن حضورك يسعد مثل حضور القصيدة
ومثل حضور المراكب، والذكريات البعيدة..
دعيني أترجم بعض كلام المقاعد وهي ترحب فيك..
دعيني، أعبر عما يدور ببال الفناجين،
وهي تفكر في شفتيك..
وبال الملاعق، والسكرية..
دعيني أضيفك حرفاً جديداً..
على أحرف الأبجدية..
دعيني أناقض نفسي قليلاً
وأجمع في الحب بين الحضارة والبربرية..)
بعد كل هذا البوح يقوم نزار بكسر رتابة اللقاء ليفجأ حبيبته والقارئ معا، ليقول : 
- أأعجبك الشاي؟
- هل ترغبين ببعض الحليب؟
- وهل تكتفين –كما كنت دوماً- بقطعة سكر؟
- وأما أنا فأفضل وجهك من غير سكر.
(أأعجبك الشاي) ليست صورة فنية وهي من الكلام اليومي؛ لكن الشاعر حقق بها ما لا تستطيع عشرات الصور الفنية، حيث كسر الرتابة وعاد ممهدا للغزل من جديد، بعد رتابة أو ملل قد يكونان هيمنا على التلقي، فجاء (الشاي) ليذكرنا أن كل هذا الغزل كان وهي تشرب الشاي ولم يكن قد سألها في البداية عن حاجتها للسكر، بل ادخره ليديم وتيرة البوح والتغزل 
بحبيبته.