ناجح المعموري وتقديس العنف والعنف المقدس

ثقافة 2021/03/23
...

 سلام مكي
لعل أهم ما يميز ناجح المعموري عن غيره من الباحثين، أنه يسعى من خلال كتاباته إلى جر الحدث أو الظاهرة إلى منطقة اشتغاله، أو بتعبير آخر، يخضع الواقعة إلى زاويته الخاصة، فيجردها من النتوءات والحواشي التي تذهب به إلى مناطق بحثية أخرى، ليخرج منها كائنا فكريا أو فكرة تتسق مع خط تفكيره.
فالحدث هو الذي عليه أن يتوافق مع ما يفكر به ناجح وليس العكس.. ومن هنا، كان كتابه الأخير "عنف المقدس في الأساطير العراقية" الصادر مؤخرا عن دار المدى في بغداد، محاولة جادة ومهمة من المعموري لمعالجة ظاهرة اجتماعية وسياسية خطيرة، تعصف بالمجتمع العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى اليوم، وهي ظاهرة العنف، مع الأخذ بنظر الاعتبار الاختلاف بين مخرجات العنف قبل عام 2003 وما بعدها. فالعنف قبل سقوط النظام، كان يمارس عبر نطاق الدولة، التي كان العنف ضمن سياساتها وأولوياتها في ترسيخ وتشييد صرحها الأحمر داخل الروح العراقية، فكان يتم استخدام الدولة ومواردها ومؤسساتها لترويع الناس، وممارسة أقصى أشد صنوف وأشكال العنف بحقهم، خصوصا، الذين يختلفون مع النظام في توجهاته. أما بعد 2003، فكان العنف، يمارس بصورة فوضوية، وبأنماط هجينة، وعبر آليات مستحدثة، بعيدا عن الدولة، في أقبية الجماعات المنفلتة، والأشخاص الذين لا رادع لهم ولا ضمير.. لقد كانت تمظهرات العنف داخل المجتمع، وتغلغله في أدق تفاصيل الحياة اليومية، فالعنف يوجد في الشارع والمدرسة والعمل والمنزل، ويوجد بين الفلاحين والسياسيين والمثقفين.. ويوجد في الواقع وفي الواقع الافتراضي.. وكل أشكال العنف، وصنوفه، تنطلق من منبع واحد وهو "المقدس" وهو ما لاحظه المعموري، واستدعى منه أن يصوغ فكرة عن العنف، عبر العودة إلى المنابع الأولى للفكر العراقي القديم، بوصفه الموجه الأول الذي انطلقت منه الحضارة والفكر في البلد.. وقبل أن نطرح على المعموري سؤالا يخص العنف، بوصفه حالة ملازمة لأي أمة ودولة، خصوصا وأن الأمم لا تستغني عن المقدس، بوصفه وسيلة وغاية في آن واحد.. وسيلة للوصول إلى غايات مختلفة، وغاية بحد ذاتها. فقال: إن تاريخ أية أمة من الأمم قد لا يخلو عبر مسيرتها التاريخية الطويلة من أحداث تتصف بالعنف والقتل والظلم والسلوك العدواني لأن مثل هذا السلوك وما يرافقه من عنف وتطرف ودموية لدى الانسان يكاد يكون صفة ثابتة معروفة وموجودة في تاريخ المجتمعات البشرية كلها.. فإذا كان العنف موجودا لدى باقي الأمم، لماذا يتم التركيز على العراق؟، لماذا استدعى العنف في الأساطير العراقية ناجحا، كي يكتب عنه ما كتب؟ يجيب المعموري عن السؤال الذي سبقنا بطرح قائلا: إن ما نجده في تاريخ العراق منذ أقدم العصور وحتى الآن، أمر مختلف، فهذا التاريخ لا يزدحم بأحداث العنف الدموي والظلم والقسوة الشريرة فحسب، بل إن تلك الأحداث والوقائع التاريخية المشحونة بالعنف الدموي تميل نحو ظاهرةالاتصاف بالمبالغة والتطرف والتصعيد اللا معقول في أداء هذه المعاني جميعا والإيغال في تطبيقاتها وممارستها إلى الحد الأقصى، أي المبالغة بالعنف الدموي والمبالغة بالقسوة والظلم والمبالغة في الشراسة والدموية خلال التعامل مع القضايا والنشاطات الانسانية بمختلف أشكالها ومستوياتها. فالعنف كما قلنا، لم يقف عند حد معين، بل كان حدثا لازم التاريخ العراقي، وبقي ظاهرة تلازم وتؤثر في أي حدث، أو ظاهرة. 
ولكي يتم تفعيل خطاب العنف، لابد من وجود شحنة عاطفية، تضفي نوعا من القداسة عليه، بغية اتخاذ العنف الذي يرتكب بحق المخالف، أمرا مشروعا، ويعطي جرعة تبريرية لمن يمارس العنف، عبر شيطنة المخالف، وخطورته على الفكر الذي يحمله من يمارس العنف.. ومن يمارس العنف، لاشك أنه يمارسه ضد من يملك مقدسا آخر، ينافس مقدسه، ويضارعه في القوة والنفوذ، فكانت نتيجة الصراع بين مقدسين أو أكثر أن يمارس فعل الاقصاء بين الأطراف المتصارعة، لتكون الغلبة للجانب الأقوى. فالصراع يحدث، عندما لا يكون هنالك متسع أو فرصة للإقصاء الودي.. 
أخذ المعموري في بداية كتابه، أنموذجين مقدسين، مارسا العنف بأقصى وأبشع أشكاله، وهو عنف مغطى بالمقدس، كيف لا، ومن يمارس أما إله أو ثلثاه إله. "أنليل" الأنموذج الأول الذي مارس العنف المفرط بحق رعاياه. هذا الإله بما يمتلكه من قوة وعناصر عنفية وتدميرية، مارس عنفا أدى إلى خراب واسع في المدن السومرية. الأنموذج الآخر والأكثر تجليا وكشفا لنسق العنف السائد في العراق القديم، والذي كان سمة لا تفارق المخيال السياسي والفكري العراقي القديم، هو "جلجامش" ملك أوروك.. هذا الملك الذي يقهر شعبه في الليل وفي وضح النهار، والذي لم يترك عذراء لحبيبها ولا زوجة محارب، ولا ابنة بطل.. فالعنف الذي مارسه جلجامش، يختلف عن ذلك الذي مارسه أنليل، فجلجامش لم يكن إلها خالصا، بل كان ثلثاه إلها، والباقي بشر، وكان ملكا على أوروك، مارس أفعالا عنفية ضد سكان المدينة الذين ضاقوا ذرعا به، وشكوه إلى الآلهة التي خلقت له ندا وهو أنكيدو.. وهنا تتجلى المفارقة، فالعنف الذي كان يمارسه جلجامش بحق المدينة، كان مدعاة لظهور عنف من نوع جديد،  قائم على صراع خفي، مستتر بين ثقافتين، نسقين حياتيين. فعنف جلجامش، كان ضد سكان أوروك، نساءً، رجالا، كلّ كان ينال نصيبه من بطش وعنف جلجامش. ولكون الناس غير قادرين على مواجهة جلجامش، فلم يكن أمامهم سوى اللجوء إلى الآلهة التي خلقت جلجامش.. فكان أن تم تغيير قواعد الصراع من عنف جسدي، إلى عنف فكري، فأنكيدو الذي خلق وعاش في البرية زمنا طويلا قبل أن يلتقي جلجامش، الملك الذي يعيش في المدينة والذي يملكها ويمارس فيها ما يمارس من أفعال بحق سكانها.. فهنا تحولت بوصلة الصراع إلى صراع بين ثقافتين: ثقافة الحضارة وثقافة البداوة، وكانت النتيجة هي انتصار ثقافة الحضارة، عندما تحولت العداوة بين جلجامش وأنكيدو إلى صداقة قوية، ومن ثم تخلى انكيدو عن بداوته لصالح مدنية جلجامش.. 
إن ما أراد قوله ناجح المعموري في كتابه الجديد"عنف المقدس في الأساطير العراقية" هو ضرورة التصدي فكريا لظاهرة العنف المستشرية في الحياة العراقية بشكل عام، فلا يمكن القضاء على أية ظاهرة في مجتمع ما، من دون تحليلها ثقافيا، وإرجاعها إلى أصولها الأولى التي تشكلت منها، وتحولت إلى فكرة عامة، لها مريدونها ومعتنقوها. وبرأيي أن كتاب المعموري هذا، هو مشروع ثقافي، لابد من أن يسهم فيه المثقفون والكتاب على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، وما هذا الكتاب، إلا الشرارة الأولى أو المفتتح الذي سيكون بداية السير في طريق تفكيك خطاب العنف، وإخضاعه إلى موجهات نقدية، قادرة على تعريته أمام الجمهور، في مسعى لتذويب وتفتيت العنف، كظاهرة أدت إلى تقويض الحياة الانسانية..