جمعة الحلفي حاضراً بشعره رغم الغياب

ثقافة شعبية 2019/02/08
...

سعد صاحب 
جمعة الحلفي شاعرٌ حداثويٌّ، منذ صدور مجموعته الأولى (ساعة ويذبل الزيتون), في بغداد العام 1976، التي كانت مميزة باشتغالاتها الحديثة، المتسمة بالمغايرة والجدة والاختلاف. وتعدُّ قصيدة (وردة الثوب) من النماذج الشعريَّة الجيدة في تلك التجربة، لأنها كُتِبتْ بطريقة الشعر المدور، لا على أساس التقطيع الوزني فقط، وإنما بروحيتها الحالمة، وانفلاتها من قبضة التقليد، والابتعاد عن التقفية أو اندماجها مع الأبيات الأخرى.
(غفله ولن الورده المرسومة اعلى الثوب الاصفر ذبلت ذبلت ذابت/ طفت كل النار الجانت بين اطراف الكرسي وبين عيوني توج وتطفه وحتى الريح بغفله انسابت من بين الباب ومفتاحه/ وهمست كمره وحمره وليل وشارع وولاية من بخور ونور).
وفي مجموعته (مليت) الصادرة في بيروت العام 1992، كان الحلفي يتطور بشكل سريع، وما نقول معزز بالتنوع وخصب المخيلة والثراء الصوري، والاجتهاد بتجاوز ما سبق، والتنامي الإبداعي الممتد من نص الى نص. والقصائد فيها الكثير من الجديد، على مستوى الأفكار والأشياء والمعاني، وهذا ما يدلل على موهبة حقيقيَّة صادقة، وشاعريَّة ناضجة منذ بدايات الطريق.
(من يا نبع مرتوي/ من يا غصن تفاح جبت الوان لخدودك/ من يا مجره نزلت/ من يا سمه ويا كاع/ لميت الهوه العودك/ وك انه مجبور/ انه مجبور بعيونك/ خليني البساتين الورد ناطور/ محد يوصل حدودك).
تكتمل الدائرة ويصل الشاعر الى درجة النضج النهائي ، بالخروج عن السرب واعتماد أسلوب يخالف الذائقة القديمة المدربة على الوضوح وعدم مشاكسة ما تتوقع أو ما تريد. هذه الكتابات تغوص في أعماق النفس الإنسانيَّة، بجملٍ شعريَّة لها أكثر من بعدٍ واحدٍ، إنها عوالم متشابكة يتداخل فيها الواقعي والفلسفي والاجتماعي والغزلي والسياسي، لكنها تبقى على قرب من دغدغة المشاعر، وتبتعد عن الانغلاق والغموض والدوران والالتباس.
(ليلة كلت تعود الي وتانيت/ حنيت بيباني وزرعت اللوز بالعتبه/ وشعلت شموع وتوضيت/ كلت اصليلك فرض لو اجيت).
 
إيقاع جديد
مداخل قصائد الشاعر جمعة الحلفي، تجذبك لقراءة القصيدة وتكملتها الى النهاية، بسبب الصور المتلاحقة، والاستفزاز الذي تثيره في النفس، أو لجمالية لغتها الموحية البعيدة عن التصحر، أو لخيالها العابر للحدود، أو لإيقاعها الجديد الموزع بمهارة الفنان العارف، بخبايا الموسيقى وأسرارها، أو لجمعها المتناقضات في مجاورة غريبة من دون أنْ يفلت العنان من يديه، فالقسوة تصاحب الرقة، والثورة ترافق السلام والحلم يحتضن الواقع، والطرافة تسير بمحاذاة الحكمة، والحب يحاول سحب الكراهية الى منطقته الآمنة.
(مسه الخير على بغداد/ مسه الخير على شباج بالبصره/ على صحن الإمام بكربله/ ع الكبه والحضره/ مسه الخير على عتبه بشمال الورد/ على ابونه الفرات وطينته ودهله/ مسه الخير على دجله/ الحزينه الغافيه الترفه/ مسه الخير على شاعر بالعراق/ على اوراقه وريشته وشمعه/ مسه الخير على بستان الحزن/ كل نخله بيه
 دمعه).
 
سكون
يتأخر جمعة الحلفي كثيراً في الكتابة، حتى يختار المفردة المناسبة، صارخاً بعد العثور عليها وجدتها، وهذا الحال يذكرني بالمتصوف (ابو الحسين النوري) الذي كان يطيل المراقبة والسكون وحين سُئلَ كيف تعلمت هذه الأمور الصعبة قال: من (سنور) لي أي قط، إذا أراد الصيد لا تتحرك منه شعرة، حتى يصطاد فريسته بذكاءٍ نادرٍ، وهكذا شاعرنا يبقى ساكناً في مكانه، حتى يصيد الكلمات العصيَّة على الترويض.
(تالفه روحي بغيابك/ عتب ليل موادعك/ شباج حزني مشرع من سنين/ من سديت بابك/ ليله وحده ارد اصلي بحضرتك ارد اهز شباج حزني/ وحيل حيل ابجي اعلى بابك).
 
ترقيم
الحلفي لا يكتب النص الشعري الطويل، بل يميل مزاجه الإبداعي للقصائد القصيرة، وهو لا يكثر من العنونة الداخلية، ولا يعشق تقنية الترقيم. بل يضع فواصل ما بين نهايات المقاطع، تعني التوقف والانتقال الى مقطع آخر، أكثر الأحيان يكون متصلاً مع ما سبق، أو يبدو مستقلاً في معناه.
(وين يا روحي بعد تلكين ديره/ مانه مليت المواني/ شراعي حد الماي حيره/ كلبي يا حزن الطواحين بجزيره).
 
إضمار
يوحد نصوص الحلفي الاشتغال الحديث، المتمثل بالإيجاز والدهشة والتركيز والتفرد والتكثيف والإضمار، وانتقاء الصور الشعريَّة بطريقة خاصة، والنأي عن السياق القديم والاستخدام المميز للوزن والقافية والإيقاع، وإدخال المفردات الثرة، في لحظة القبض على جمرة الإبداع الساخنة. والانتفاع من عوالم الشعر العربي الفصيح، بكل مسمياته من الحر والنثر والنص المفتوح والعمودي الموزون المقفى، وفي هذه الأشكال جميعاً، لا يستخدم سوى النبرة الهادئة المستقرة القادمة من أعماق الوجدان الضاج بالانفعال والأسئلة والحوار مع الذات والشموليَّة والانفراد 
والتواصل.
(مثل الدفو بالبرد/ مثل نسمه حنينه وبارده بالصيف/ مثل نجمه بعيده مثل لون الطيف/ امي الغافية اعلى الطين/ امي الصافية الترفه/ امي شما طفت شمعاتنه بريح/ تعلك روحهه وتطفى/ تنسه اسمائنه من تغيض/ لجنهه من بعد لحظات/ تنسى جروحهه وتغفة/ انه ازغر جدايل روحهه/ واطول فصل بيامهه 
الكلفه).