نسف المسرود.. عن الاختلال الزمني في النص الروائي

ثقافة 2021/03/30
...

  بشير حاجم
يعرَّف علم السرد بأنه فرعٌ من النقد الأدبي، معرفيٌّ، يتعامل مع البنية السردية، وظيفيّاً، عبْر التزامه بالقواعد والقوانين المقرّرة مصطلحيّاً و/أو مفهوميّاً. لذلك يختص هذا العلم بكل من: السارد: الذي يتستر المؤلف وراء وجهة نظره، المسرود له: المتقبِّل ليس المستقبِل فحسْب، المسرود: ما يصدر عن السارد وارداً إلى المسرود له. هذا الأخير، الثالث، يجب عليه الانتظام لتشكيل مجموع أحداث مقترنة بشخصيات مؤطرة لأزمنة وأماكن.
ما يعني أنّ مكوِّنات المسرود، الآن، هي: الحدث، الشخصية، الزمن، المكان. حين يختلُّ أيُّ مكوِّن، منها، حتماً تختلُّ المكونات الأخرى، ثلاثتها، خصوصاً الزمن. إذ إن اختلاله في أيِّ نص روائي، حصراً هنا، ليس فقط نتيجةً بسبب بل أيضا سببٌ لنتيجة ذات تأثير كُلّي، أساسي، يجسُّ جُلّ الثيمة المتنيّة، الجذرية، بحيث يَنسِف المسرودَ، مطْلقاً، ثم المسرود له مع السارد كليهما. حتى، كذلك، إنْ كان هذا الاختلال الزمني جزئيّاً، ثانويّاً، أيْ يمسُّ إحدى الثيمات الهامشية، الفرعية، فيُشكَل المسرودُ، نسبيّاً، على السارد من دون المسرود له بالتأكيد.
ففي: النوتي، حسن البحار، 2017، أوّلاً، ثمة بلسانه سارد داخليّ هذا الآتي: جلستُ أقلب في القنوات لا على وجه التعيين، ثبتُ الصورة على مشهد حربي. دبابة وسط الشارع العام في سرعة جنونية كانت تسحق كل من يعترض تقدمها. في أسفل الشاشة مكتوب ما يهم الشعوب العربية، طائرات ومدرعات جيوش التحالف العربي بقيادة السعودية تحرق اليمن من الجو والأرض. وفي تقرير آخر فرنسا تلبس شوارعها الورود تحتفل بيوم الحب. ليبيا تنهار تماماً في دائرة صراعات التمسك بالسلطة. إيطاليا تحقق أعلى إيرادات سياحية لهذا العام. لبنان تتظاهر ضد الفساد. مصر تطيح بمرسي وتثبت السيسي رئيساً. / ص302. أين الاختلال الزمني هنا؟ لقد بدأت (جيوش التحالف العربي بقيادة السعودية تحرق اليمن) منذ 25 آذار "مارس" 2015، حتى اليوم!، أمّا (مصر تطيح بمرسي وتثبت السيسي رئيساً) فذلك كان في 3 تموز "يوليو" 2013. فما هو الزمن الحاضر وفقاً لـ"أسفل الشاشة"؟! للعام 2015؟ أم لنظيره 2013؟ أم لسواهما؟
وفي: آدم سامي ـ مور، علاء مشذوب، 2015، ثانياً، ثمة "ثورة العشرين" بلسان السارد الداخلي المتمثل في البطل ("نذير" أو "منذور"): تسارعت الأحداث بشكل مريع، وكانت قلعة سكر هي من أولى بلدات اللواء التي ظهرت فيها حوافز الثورة، فقد استطاعت عشائر قلعة سكر وبالتحديد في شهر تموز من عام 1920 الذي ما زلت أذكره جيدا من قطع خطوط التلفون بين الشطرة وقلعة سكر، حتى أنهم كمنوا للحاكم العسكري "..."، "..." في محاولة لقتله ولكنه نجا بأعجوبة مع حمايته./ ص: 88 ـ 89 - بدأ شهر حزيران ينفد، وكانت أوضاع البلاد بالعموم في توتر مستمر، وكانت الأخبار تتناقل بين الألوية والأقضية والنواحي، وبالخصوص فتاوى المراجع الدينية والثورات العشائرية في الكوفة والرارنجية والديوانية وغيرها من الأماكن العراقية الأخرى، "..."، "..."، حتى إذا ما وصلنا شهر تموز بدأت نار الثورة العراقية بالظهور، وقد اشتعلت أكثر الأقضية والنواحي في أغلب المدن العراقية، وبدأت هناك بعض المفاوضات ما بين الحاكم الإنكليزي (ويلسون) وبعض الوسطاء من مراجع الدين،/ ص93. أين الاختلال الزمني هنا؟ يقول تاريخ "ثورة العشرين"، حتى إنكليزيّاً!، إن شرارتها انطلقت في الثلاثين من حزيران "يونيو" 1920 من "الرميثة" ضمن (السماوة)، ثم: "المشخاب" فـ"الكوفة" في (النجف)، "الكفل" فـ"الرارنجية" في (الحلة)، "الدغارة" فـ"عفك" في (الديوانية)... إلخ، وإن تلكم الشرارة وصلت إلى (المنتفج) بدءاً بـ"قلعة سكر" التي هاجمت عشائرها سرايها الحكومي في الثاني عشر من آب "أغسطس" 1920. لكن هذا القول التاريخي، المتواتر في المؤرّخ المجمل للثورة هذه، يبدو مشوّشاً عند المُقرّ بالآتي: كنت في داخلي لا أجد الأسباب الموجبة لهذه الثورة، وكنت أعتقد أن الاحتلال الإنكليزي ربما سيفيد العراق بعشائره المتناحرة وتخلفه/ ص93. 
فهل أراد صاحب هذا الإقرار الخطير، بما يعتقد داخله، أن يبلوَ ذاته بشيء من ((إعادة كتابة التاريخ))؟!
وفي: الكنزة الزرقاء، فريد الطائي، 2019، ثالثاً، ثمة سارد داخلي بنسق تتابعي، أي أ ب ت ث أو 1 2 3 4، يصل للحدث الآتي: عادة أقلّب صحف الصباح في الورشة، بان لي إعلان عن مسرحية جادة على خشبة المسرح الوطني. / ص138. أين الاختلال الزمني هنا؟ يُفترض، حدّ الجزم، أن الزمن الحاضر، حيث عرض المسرحية الجادة: ((هالني زحام الجمهور))، إمّا للعام 1981، الذي تم خلاله افتتاح مبنى "المسرح الوطني" في العاصمة (بغداد)، أو لأيٍّ ممّا بعده من أعوام مفتوحة زمنيّاً. لكن هنالك مفاجأة نكوص، من نهايات فصل إلى بدايات آخر، يصنعها حدث لاحق كهذا: (بعد عام تقريباً، في نهاية اليوم الأخير من خدمة العَلَم غادرت المعسكر باتجاه مركز المدينة في تموز عام 1980. / ص153)!
أمّا في: شرق الأحزان، عباس لطيف، 2015، أخيراً، فثمة "كامل" و "سراب" الطالبان في آخر صفوف المرحلة الإعدادية بحسب أوّلهما وهو سارد داخلي: أول مرة رأيت فيها (سراب) حين جاءت مع أمها لشراء الدجاج.. "...". "..."، وهتفت أم سراب: - نحن جيران بيت ابو احسان ودائماً نراك تأتي للدراسة مع احسان.. سراب أيضاً في السادس. / ص46 - وأنا أقرأ نتائج القبول في الكليات، "..."، سقط نظري على اسمي، وقد قُبلت في كلية الادارة والاقتصاد/ ص61 - أما سراب "..."، فكانت نتيجتها الرسوب"..." وأرغمتها أمها على ترك الدراسة والزواج من المقاول فاضل/ ص62 - ولدت طفلة صغيرة وجميلة، ثم أقدمت على حرق نفسها، "...". "..." واضطر فاضل ان يضع طفلته عند احدى اخواته/ ص74. أين الاختلال الزمني هنا؟ عندما ينال "كامل" شهادة البكالوريوس، متخرّجاً من كليته، يلتحق بمديرية موسيقى الجيش في منطقة "باب المعظم"، كي يؤدّي خدمته العسكرية الإلزامية، حيث في هذه المنطقة، ضمن مدينة (بغداد)، يلتقي بصديقه "إحسان"، داخل مكتبه المخصّص للاستنساخ والطباعة، فيخبره بأنّ: ابنة سراب اصبحت شابة واحياناً تأتيه مع عمتها فضيلة لشراء "..." بعض الملازم. / ص129. لقد "اصبحت شابة" هذه الـ"ابنة"، إذاً، بعدما مرّت على ولادتها سنوات أربع، فقط!، بل أكثر من ذلك كالآتي: (وركّز بعمق في وجهي وهو ينطق هذه الجملة: - كامل... سبحان الخالق... أتعرف ان ابنة سراب اصبحت شابة ناضجة... وكأنها فلقة من القمر... عروس مدهشة.../ ص: 141 ـ 142)!
هكذا نُسف المسرود في هذه الروايات الأربع، أمثلةً ليست حصورات، إذ اختلّ زمنه، وإنْ بجزئية لا كلية أو بثانوية لا أساسية، فلم يعد من تلك الأزمنة ذات الحقائق السائلة غير الظاهرة سوى بمفعولها على الشخصيات والأماكن، حيث هذا المفعول مُدرَك في ما هو محيط به من أشياء وأحياء، أي أنه شامل لجميع الأحداث مضفياً عليها صفة 
الانتظام.