كيف تأمركنا؟

ثقافة 2021/03/31
...

 بغداد: أمجد ياسين
 
في أحد كتبه المهمة عن أمركة العالم يبحث الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه في كتابه (حضارة.. كيف تأمركنا؟) ترجمة د.قاسم المقداد والصادر عن دار نينوى في 233 صفحة من القطع المتوسط، عن أمركة العالم ومعنى الحضارة وتمثلاتها في العالم وماهيتها.
يفتتح كتابه بالسؤال عن معنى كلمة (حضارة) مستحضرا قول الشاعر بول فاليري: “إن الكيانات الغامضة بائدة”، إذ يتفق معه ان التعرف على متوحش من مسافة بعيدة أسهل من التعرف على المتحضر. ولاجل ذلك ذهب للتمييز بين مفردتي ثقافة وحضارة مستعينا بمقولة ليفي شتراوس “أي مجموع المواقف والقدرات التي تعلمها الانسان بوصفه عضوا في مجتمع”. إذ يرى دوبريه أن «هناك تشوشا في النهج وضبابا في الدرب، وصار لازما توضيح الامور”، في عصر التنوير اخترع كل من ميرابو وفولتير مصطلح الحضارة، باضافة اداة التعريف، بمعنى الخروج من البربرية. بعد هذا بقليل، وضعت المانيا الثقافة بوصفها خاصية حيوية متجذرة في شعب وأرض، في مقابل الحضارة، التي تتسم بالجمود وغياب الجذور، ولا تصلح قوانينها لكل شيء. وحذر المؤرخ البرليني تيودور مومسن من ان واجب الانسان ان لايدع الحضارة تدمر الثقافة، ولا التقنية الكائن البشري. أما الانثروبولوجيون الانجلو- ساكسون الذي تبنوا، وهم محقون بذلك، الانتقال من الفكرة الاخلاقية الى الواقع الاجتماعي، اي من المفرد الى الجمع، فخصصوا كلمة “ثقافة” للحديث عن المجتمعات البدائية وكلمة “حضارة” عن المجتمعات الحديثة.
ثم ينتقل الى الباب الثاني، الكتاب يتألف من ستة أبواب، “متى توقفت اوروبا عن ان تكون حضارة”، وفيه يحدد دوبريه هذه الفترة بين تاريخين هما العام 1919 والعام 1969 عبر ظهور كتابين مهمين يعدان بمنزلة الشاهدين وهما “أزمة العقل” للفرنسي بول فاليري، و”صدام الحضارات” للاميركي صامويل هانتنغتون، إذ يوضح اختلاف الرؤية بينهما بشأن المسألة نفسها، وانها اكثر من مجرد تغير في الأنموذج  حسب رأيه بل ثورة فلكية، إذ بين هذين التاريخين تبادلت الشمس والقمر مكانيهما.
في باب «متى أصبحت فرنسا ثقافة؟”، وفي عنوانه الفرعي “الانسان الاقتصادي”، يجد دوبريه ان العصر الجديد يتلخص بالانسان الاقتصادي، انه انسان راضٍ، وبارع، وهجومي، اذا صح القول، أساسه في الجمهورية الاميركية، لكنه فرعي ومن الدرجة الثانية في الجمهورية الفرنسية التي تفعل ما بوسعها لكي تحدث نفسها. واستطاعت مملكة البلاغة من التحالف مع امبراطورية الاحصاء بسلاسة، في البدء كانت الكلمة، وفي البدء سيكون العدد.
ويجد دوبريه أننا اصبحنا اسرى لكلمتي القيمة والكمية، اما كلية الوجود البشري فمحجوبة، «قل لي كم لديك من المعلقين على تغريداتك والمعجبين بتعليقاتك، وعدد كتاباتك على الانترنت، أقل لك كم تساوي». إن متعهد الافكار الذي يتحول الى رب عمل في مكتب استشارات لا يعني انه اصبح مثقفاً. لقد اصبحت السياسة عاجزة ومخيبة للامال، «فهم المثقفون ان السلطة الحقيقية تكون حيث الشركات» كما يقول فرانسوا ايوالد الذي كان قريباً من سارتر وفوكو، إنه «تحالف الرغبة في الهيمنة على الآخر مع منطق البزنس”.
وفي باب “الحضارة الجديدة” يجد دوبريه في مقولة بوريس سيرولنيك «يمكن للوسط، انطلاقاً من عدد قليل من ابجديات الموروثات، ان يكتب ألف رواية مختلفة”، ويمكننا استنادا الى مجموعة النغمات نفسها كتابة اعمال مونتفردي او فاغنر وبالحركة نفسها نخلق نظريات تطريز بايو.. كل حضارة تخترع تركيبتها الخاصة بها، لكن لو لم يكن النسيج من الطبيعة نفسها لما كان الجنس البشري واحدا، ولتجاوزت تركيباته في النوع بوصفها أجناسا غريبة، فلا تتأثر ببعضها، او يهيج بعضها، من دون أن يكون لها أساس مشترك.
ويواصل، إننا في اوروبا نرحب بالاميركانية، ونتبنى الواجب الاجتماعي والسياسي بالتقدم الى الانتخابات الرئاسية مع افراد الأسرة من زوجة واطفال بدلا من تقديم برنامج، والواجب الدبلوماسي بمعاقبة بلد او قصفه فورا لأنه لا يعجبنا بدلا من التحاور معه قبل ان نضرب، باختصار ما كان لنا أن نغير طرائق سلوكنا في هذا العالم او خوض الحروب لو لم تكن لدينا استعدادات مسبقة جادة او حقيقية للقيام بذلك.
وفي الباب الأخير «ما الجديد الذي تحمله روما الجديدة؟» كتب دوبريه، تتابع الامبراطوريات وتتشابه في اكثر من سمة خلافا للقول المأثور. لكن الطابعة الاميركية جددت تقاليد اجدادها في الهيمنة عبر سبقها التكنولوجي. لان السيطرة على المعايير والاشكال تسمح باضافة منظومة من البصمات الاجتماعية والثقافية الى منظومة السيطرة الاقتصادية، بحيث يمكنها استبدال الاولى بالثانية. إنها أصالة الأمركة وكذلك صعوبة التخلص منها.