الواقعُ.. الحلمُ.. الوهمُ

ثقافة 2021/03/31
...

  محمد صابر عبيد
تنتظم هذه الثلاثيّة «الواقعُ، الحلمُ، الوهمُ» في سياق واحد متدرّج يبدأ بالأبسط وينتهي بالأعقد، إذ تبدأ الأشياء الأوليّة كلها في حالة حَبوٍ فطري نقيّ من درجة صفر الحياة في عتبة الواقع، حين يرى الإنسان نفسه داخل حدود واضحة وصافية لا لبس فيها ولا احتيال ولا أخطاء كبرى يمكن أن تذكَر، ولا تحتاج لتفكيك شفراتها وكشف مضمراتها وفهم طبائعها إلى تفسير أو تحليل أو تأويل، وربما تنطلق الحكمة السقراطيّة العظيمة «أعرف نفسك» أساساً من هذه القاعدة المنطقيّة التي لا تتيح للإنسان سوى تلمس حدوده بمستوى معرفته.
وهذه المعرفة الشخصيّة للذات تعدّ واحدة من أعقد المشكلات البشريّة حين تحصل المفارقة الهائلة بين الوعي والمعرفة، فالوعي هو الأداة المعياريّة الرصينة التي تضبط حركة الإنسان وإيقاع تفكيره في مسيرة معرفة نفسه، ومن دون الوعي يحصل التيه والضياع والتشتّت والفقر المعرفيّ والإنسانيّ والروحيّ والثقافيّ والجسديّ، فيقع الإنسان في طين الارتباك والثرثرة العقيمة والادّعاء الفارغ المزيّف، ويختلط عنده الحابل بالنابل كما يقولون فلا يعود يفرّق بين الأخضر واليابس ولا بين الحصى والرمل ولا بين البعيد والقرب.
يتقدّم الواقع بوصفه خطّ الشروع الأوّل في مسيرة الحياة بحدود واضحة ذات سقف معلوماتيّ محدود تتكافأ فيه الحركة مع المعرفة، فالفلاح مثلاً يتقن مفردات عمله في الحقل على نحو سليم بحيث لا يطلب من أيّة مفردة حوله أن تتجاوز حدودها وتعمل بأعلى من كفاءتها الطبيعيّة؛ لذا فإنّ عمله يتمثّل أعلى درجات الواقعيّة فلا يضغط على نفسه ولا يطالبها بالمزيد أبداً، وهو ما ينطبق على المهن التقليديّة الأخرى التي تتحقّق فيها الدرجة المثاليّة ممّا يصطلح عليه «القناعة».
تأتي عتبة «الحلم» لتفتح أفق الواقع على مساحة جديدة تهدّد السلمَ الواقعيَّ في الداخل البشريّ وتحرّضه على الطمع لتجاوز حدود الواقع واختراقها، ويبدأ الوعي بالعمل على وفق طاقات جديدة لا يرضى فيها بالممكن بل يتحوّل نحو مساحة حلميّة لمضاعفة عدد المفردات وتطويرها، وهنا يقع الإنسان في المفارقة الأولى داخل محتوى هذه الثلاثيّة، فقد يكون قادراً على إنجاز هذه المهمّة وينتقل فعلاً من طبقة الواقع إلى طبقة الحلم بمعناها المنتِج والفاعل والأصيل، بما يتناسب مع قدراته ووعيه وإمكاناته فيحوّل الحلم إلى واقع جديد أكثر تقدماً ونضجاً وحيويّة وتقدّماً من الواقع المجرّد، وقد يكون عاجزاً عن ذلك ليدور في دوامة الحلم السلبيّ بلا قدرة حقيقيّة على تجذير حلمه وتأسيسه وتحويله إلى كيان منتِج ومتكامل.
إنّ إصرار العاجز على التشبّث بالحلم والسعي إلى إرغامه بلا أدوات صالحة وواعية وعارفة كي يتحوّل إلى واقع جديد مخصّب، يجعل صاحبه «يُضيّع المَشيَتَين» -كما يقولون-، إذ يفقد طمأنينة الواقع المحدود في صورته البدئيّة الأوليّة من جهة، ويقصّر في الوصول إلى عتبة الحلم الناضج السويّ القادر على صوغ حياة جديدة منتِجة من جهة أخرى، وحين يدفعه ذلك إلى الإصرار على مقارعة طواحين الهواء فسوف يدخل في عتبة «الوهم»، وعندها يبتعد كثيراً عن واقعه فيفارقه مفارقة تامّة ليصاب بهذا المرض الخطير «مرض الوهم»، إذ تختلط عند المفاهيم ويفقد البوصلة التي تمكّنه من بلوغ معرفة نفسه ليكون في النهاية أسيراً لوهمه وضحية له.
ما أكثر ضحايا الوهم في عصرنا الراهن على مستويات الحياة كافة، يتوهّمون أنّهم شعراء أو قصاصّون أو نقاد أو فنانون أو.. أو..، من غير أن يمرّوا بمرحلة معرفة النفس التي أوصاهم بها الحكيم سقراط قبل آلاف السنين، يغادرون واقعهم ويخوضون في مياه الحلم الشديدة الملوحة وتتراكم طبقات الملح على أجسادهم وهم لا يشعرون، ويصرّون على التفوّه بمفردات تنتمي لأبجديّة العسل بينما أفواههم تقطّر ملحاً مشبَعاً بملحيّته الصارخة المقيتة، فمن لا يعرف نفسه سيهرف بما لا يعرف حتماً ويخيّب أمل سقراط بعد آلاف الأعوام من تطوّر البشريّة، ولعلّ هذه المقولة السقراطيّة هي ملخّص عظيم من جملة واحدة تختصر رحلة الفلسفة من أوّلها حتّى آخرها، فمن نجح في أن يعرف نفسه فقد نجا ومن أخفق في ذلك فقد هلك.
لا تدعو هذه الرؤية حتماً إلى البقاء في مرحلة «الواقع» لأنّها مرحلة تقليديّة بسيطة لا تؤمن بالتطوّر وتجعل الحياة بليدة عاديّة خالية من الجديد، لكنّها في الوقت نفسه لا تحرّض على الانتقال نحو مرحلة «الحلم» بلا أدوات وإمكانات وقدرات فعّالة بوسعها توطين الحلم وتخصيبه، فالمسافة بين «الحلم» و»الوهم» ليست أكثر من «شَعرة» لا بدّ للحالم أن يراها بوضوح، إذ هي جزء أصيل من معرفة النفس، ولعلّ المَثَل الشعبيّ القائل بشيءٍ من التفصيح «مَدّدْ قدميك على قَدْرِ لِحافِكَ» يجيب بقوّة عن سؤال هذه المعرفة للنفس، فإن كان لحافك قصيراً حاول أن تختصر جسدك بحيث يغطّي اللحاف قدميك، وبغير ذلك ستكون قدماك عاريتين وقد يتعرّضان لشتّى أنواع الأخطار التي قد تودي بحياتك، ومعرفة الحدود هي أوّل المعارف البشريّة التي يجب أن يتقنها الإنسان كي يتمكّن من ضبط وزنِ حركته في الحياة على وفقِ ميزانٍ حصيفٍ وعادلٍ، لا يمنحه أكثر ممّا يستحق ولا يمنع عنه ما يستحق فعلاً.