محاولة اختراق حواجز العزلة في قصيدة (الشارع) لاوكتافيو باث

ثقافة 2021/04/01
...

 محمد تركي النصار
 
اوكتافيو باث شاعر وأديب وسياسي مكسيكي حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1990. تشعب نشاطه في عدة مجالات فإلى جانب كونه شاعرا، فقد كتب أيضا العديد من الدراسات النقدية والتاريخية والمقالات السياسية.
قصيدة (الشارع) لباث واحدة من النصوص التي تلامس وجدان القارئ ببساطتها وتعبيرها عن الاحساس بالعزلة. ينجح الشاعر بجعل المرء جزءا من العالم الحزين لبطل القصيدة الذي يفكر في معنى الحياة ويعاني من حالة احباط  واحساس حاد بالوحدة.يعيش الرجل حالة من اللامبالاة تجاه الحياة وكل شيء حوله بسبب غياب إمكانية أن يصبح شخصا آخر وينتشل نفسه مما هو فيه. وهكذا نراه يحاول أن يجد نفسه بالرغم من انه قرر أن يعيش وحيدا ويصارع لتغيير هذا بلا أمل أو بصيص ضوء للمستقبل.
كما يبدو. يقدم اوكتافيو باث في قصيدة (الشارع) رجلا لا يعيش لكنه موجود مثل شبح يبحث بشكل متكرر عن معنى الحياة. وهذا دليل على حالة ضياع، لكن السبب الحقيقي لإحساسه بالإحباط لا يبدو واضحا للقارئ، ولفهم الأسباب فإنه من الضروري أن نركز على عنوان القصيدة الذي يوحي بأن حبكة القصيدة تستند إلى معاناة البطل الداخلية ومحاولاته لفهم ذاته، وبالإمكان افتراض ان الشارع هو مجاز ابتدائي يمثل ممرا يجبر البطل على أن يتتبع عزلته فيه. وأبعد من هذا فإن هذه الكلمة تحمل معنى مزدوجا طالما انها ترمز لبداية الحياة المليئة بالضجيج ونهاية كل شيء كما في القصيدة:
 
شارع طويل وصامت.
أمشي في الظلام، أتعثر وأسقط
وأقوم سائرا أعمى
أدوس على أحجار صامتة وأوراق يابسة
شخص آخر خلفي يدوس على الأحجار والأوراق 
وعندما أبطئ المشي يبطئ هو أيضأ
وعندما أركض يركض أيضا
أتلفت فلا أرى أحدا.
 
إن عالم الراوي يرتكز على الحقيقة التي لا تتيح له الفرصة لكي يعيش حياة أخرى. فالكلمات (أمشي في الظلام وأسقط متعثرا، ثم أنهض وأمشي أعمى) تشرح بأن المتكلم يعيش على حافة اليأس الذي يخترق روحه تدريجيا ويوصله للفراغ. ويرمز الظلام الى النفق الذي لا يتيح فرصة للرجل لكي يتنفس لكنه مع ذلك يقوم بمحاولات لكي يواصل الحياة في حين هو يكافح حزينا لتغيير مصيره. كذلك فان الظلام هو عزلته وحالته التي تسيطر على أفعاله وتتسبب برغبة لا تقاوم للبدء من البداية. فضلا عن ذلك فإن المؤلف يستخدم أفعالا مثل يتعثر ويسقط ويقوم لإظهار جهود الراوي للتقدم للأمام حتى لو كان الصمت هو الشيء الوحيد الموجود هناك. والمشي الأعمى هو علامة على ان المتحدث يعيش حالة مرعبة من كونه على
 الحافة.
ولعل الأمر الأسوأ هو أنه يعيش بلا هدف من الممكن أن يخلق معنى لحياته، ولذلك فهو لا يتذوق طعم الحياة، بل المرارة والإحباط اللذان يحولانه الى شخص عاجز سنة بعد أخرى.
صورة الأحجار وأوراق الشجر بلا أصوات والصمت تكرس ملامح البطل، والبيت (قدماي تدوسان على الأحجار الصامتة والأوراق الجافة) تعكس معنى مجازيا لما يحاول ان يخلقه الشاعر للصورة غير الحقيقية. والفكرة هنا ان الأحجار لا يمكن أن تكون صامتة إذا داس عليها شخص ما فهي في العادة تصدر أصواتا معينة في مثل هذه الحالات. وأوراق الشجر كذلك تخشخش عندما تكون جافة ويدوس عليها شخص ما، لذلك فإن الصمت يبين بأن المتكلم يعيش في عالم مغلق منفصل عن مجتمع المنطق الذي يبدو له صعب الادراك بسبب حالة الانفصال النفسي ومجمل ما يدور في ذهنه. 
وأبعد من ذلك فإن حالة اليأس تجعل ذلك الرجل لا يرى إلا تلك الأشياء التي تتناثر على الأرض ممثلة هنا بالأحجار وأوراق الشجر. انه دليل على ان هذا الرجل لا يرى كمال المحيط طالما أن وجدانه وقلبه مغموران بالفراغ الذي يستنزف كل طاقاته الداخلية بما يجعله عاجزا عن الاستمتاع بالحياة من حوله، ومن جهة أخرى فإن الأحجار والأوراق اليابسة من الممكن أن تكون تمثيلا لسنواته عديمة الفائدة، والماضي الذي يحرمه من مستقبل مشرق:
 
كل شيء مظلم ومقفل.
أدور وأدور حول تلك الزوايا التي تؤدي للشارع حتى الأبد
حيث لا أحد ينتظرني
لا أحد يتبعني
حيث ألاحق رجلا يتعثر ويقوم
ويقول حينما يراني: لا أحد.
 
يقول الراوي: شيء ما خلفي يدوس على الأحجار أيضا، وعندما أبطئ يبطئ أيضا وعندما أركض يركض، التفت فلا أرى أحدا. يبدو كأنه يحاول الهروب من نفسه والأحجار والأوراق اليابسة هنا تساعد في اظهار حالة الخوف بأن شخصا ما يتبعه، والقارئ يفهم بأن ذلك هو مجرد ظل المتحدث القريب دائما من الشخص بينما يمشي في شارع الحياة والموت، الرجل وحيد ولا أحد يتبعه عدا الصمت وأفكاره المحطمة، فضلا عن ذلك فإن الشاعر يحاول أن يوضح بأن بطل القصيدة ليس من المحتمل أن يجد طريقا لكي يبدأ حياة جديدة وبلا شك فإن قرارات جديدة من الممكن أن تساعده لكن مشكلته تكمن في انه فقد الثقة والرغبة بالعالم الذي يحيط به وهنا يكمن جوهر
 مأساته.