النحَّات نبيل أنور.. الـ (لوحة) المجسّمة

ثقافة 2021/04/01
...

 
  خالد خضير الصالحي
 
يبدو تجنب ربط المنحوتة بالمرجعيات الخارجية للواقع، أهم ما يحرص عليه النحات العراقي المغترب نبيل أنور، فليست هنالك إلا صلة واهية بين منحوتاته وبين ما يماثلها من مشخصات الواقع، وهو شخصيا يبرر الأمر بأن ذلك يهدف الى تجنب اية موجهات قرائية تدفع بالمتلقي بعيدا عن جوهر المنحوتة، وجوهر النحت، وهو ما يعيد الى ذاكرتي كيف ان أهم النحاتين اولئك الذين سمحوا للحجر بأن (ينطق بذاته)، وهذا امر واضح، في أعمال النحات السويسري هانس أيشباخر، والأميركي جيمس روزاني، والألماني المولد ماکس إرنست الذي كتب في احلى رسائله الموجهة من (مالجا) عام 1935: "أنا والبرتو جايكوميتي مصابان بحمى النحت. نحن نعمل على كتل صخرية، كبيرة وصغيرة، من ركام (فورنو كلاسيه)، حيث كان الزمن والجليد والجو قد صقلتها ببراعة، فبدت، بحد ذاتها، جميلة أخاذة، ولم يكن لأي يد بشرية أن تفعل ذلك، فحري بنا ان نترك عمل الازميل لهذه العناصر، ونقتصر عملنا على الحفر عليها بحروف الأبجدية الرونية القديمة من أحجياتنا"، وان ما كان يعنيه ارنست بكلمة (أحجياتنا) لم يفسره أحد، بيد أنني اعتقد انه يعني استنطاق مادية المنحوتة، وهي (أحجيات) لا تختلف كثيرا عن (أحجيات) السادة القدامى الذين عرفوا (روح الحجر) التي تنطق في كثير من أعمال النحت، وتشكل مؤشرا على التواشج الذي يتعذر فصله بين الدين والفن، او أسرار المادة التي يسميها هربرت ريد (قانون المادة)، او (إعادة الحياة الى المادة)، حيث الاحساس: بصلابة وتوازن الحجوم والكتل، والنسب، والقوة، والبنية، والتفاعل مع الفجوات والنتوءات، والتمفصل الايقاعي للمستويات والمحيطات، والاهم من كل ذلك (احترام طبيعة المادة).
إن منحوتات نبيل أنور برأينا تكملة لمسيرة احد اهم نحاتي المادة العراقيين النحات الاستثنائي (عبد الرحيم الوكيل) الذي كان في النحت العراقي وحيد عصره، إذ ابتدأت معه المنحوتة لاستدعاء المتلقي للمسها، والتفاعل معها كمادة، وتماما كالنحات الاخر الذي كرس اهمية لـ (المادة الاستثنائية)، وهي مواد غير مألوفة مطلقا في النحت العراقي، ولكنها الاقدر على ان تحقق، دونما اسفاف، التعبير عن الروح المحلية العراقية، ونعني به (صالح القرغولي)، واستنادا الى درجة الفرادة التي تمتاز بها منحوتات نبيل أنور فإني أعد تجربته اضافة نوعية للنحت العراقي، بل وأعمال تمتلك درجة لا يستهان بها من الاستثنائية، ولا تحتاج سوى الى تحولها الى مادة ليست هشة، برونز مثلا، من اجل دوام بقائها.
يضطر نبيل أنور أحيانا، ضمن حرصه في ان لا يشتط المتلقي في الابتعاد عن (موضوع) المنحوتة، الى وضع عنوان يشكل دليل المتلقي الى المنحوتة، وهو ما اعتبرته مرة موجها قرائيا يكبح رحابة التأويل الممكنة التي يوفرها افتقار المنحوتة الى عنوان، بينما يسهم العنوان في إبعاد المتلقي عن ملامسة جوهر مادية النحت.
إن النحت، بصفته تعبيرا عن (الروح) التي قال بها هيجل، نجد تجسده في العديد من نتاجات النحات نبيل أنور، فعنده تتحول المادة الصامتة الى ترددات موسيقية لا مجال لإفسادها بأية تشابهات مع الواقع ومحدداته التشخيصية، وبذلك يثبت النحت مرة أخرى، على يد نبيل أنور، إنه مازال يقف في صف الفنون المثالية الكلاسيكية، بوصفه فنا استطاع الافلات من ربقة الرمزية في الفنون الاخرى، وهو ما يسميه هيجل في كتابه (فن النحت) (عودة الذات الى ذاتها)، إذ يشكل العمل الفني تجسيدا لاتحاد (الفكرة) مع مظهرها (الحسي)، اي تواشج المادة مع مضمونها بشكل يتعذر فصله، فكان النحت أقدر الفنون تعبيرا عن (المثل العليا للجمال الكلاسيكي)، وعن الشخصية المتحررة من الانفعالات الإنسانية، فمن خلال (فن النحت) "أمكن للتشكيل أن يعبر عن (الألوهية) تعبيرا مباشرا، وذلك لان (التمثال المجسد)  كان لا يشير إلى (الإله) بواسطة المعبد بل إلى (الإله) مباشرة".
 وان ما يقوم به نبيل أنور من اضافة اللون الى المنحوتة هو محاولة، شخصها هيجل في فن الرسم، حينما اعتبر استخدام التقنيات: اللونية، والخطية، والملمسية (التكسجر) اظهارا للروح في الرسم بشكل أكثر دقة وحيوية، فكيف إذا تحول النحت عند نبيل انور الى (لوحة) مجسمة؟.