الشاعرُ يتوارى

ثقافة 2021/04/01
...

طالب عبد العزيز 
 
لا أظننا نفترق كثيراً إذا قلنا بأنَّ الشعر فعلٌ إنسانيٌّ، يهَبهُ البعضُ منّا بعلم منه، أو بدونه، وانهُ يُصْقَل بالتجربة والمِران والمُطاولة، وأنّه يتطوّر مع الحياة، بأشكاله وأساليبه، وأنَّ قوله يخضع للمتغيّر فينا، حيث نكون، وعبر الازمنة، ومثلما يُفنِّد العقلُ حكايةَ وجوده عند ربات الشّعر وآلهة الاولمب ووادي عبقر، يمكننا تفنيدُ وقوفَ الشاعر بيننا مرتجلاً ما هو (مُعْجِزٌ وخارق واستثنائي)، إذ ليس أقرب الينا من قصة الحَوْليات في شعرنا العربي، وبقراءة معمقة لكثير من قصائد المتنبي نجد أنَّه جلسَ، وتأملَ، وشطبَ، وأبدلَ، واستأنسَ، ومن ثمَّ استقر الى الصورة الأخيرة، والشكل الذي اِرتضاه لقصيدته. ضمن التصوّر هذا لا أجدُ في وقوف الشاعرِ على المنصة، قارئاً عن ظهْر قلب، مستعرضاً مهاراته في القراءة حفظاً، وملوحاً، ومستدراً عطف الجمهور بالتصفيق.. إلا فعلاً لا يمتُّ لجوهر الشعر بصلة، وهو مما تجاوزته الحياة، وفي حافظة كلٍّ منا شعراء لم نرَ صورة لهم على منصة، وقد كتب أحد النقاد عن رينيه شار "هذا الشاعر لن يفعل شيئاً آخر غير صقل وتنقيح قصائده، لكي يُوقع الحقيقة في الشراك بشكل أفضل، وهو يُسيئ معاملة جُمَلِه، ويُخرج أحشاءَها.. وهو يقطعُ ويشطبُ ويحذفُ، ويُخرج أصداءَ استيهامات عقمه". 
والشعر من وجهة نظر الانجليزي فيليب لاركن "هو الذي يقرأ بصمت" وأجدُ أنَّ اكتشاف الورق والطباعة، وأجهزة الضوء، والموسيقى والمؤثرات الحديثة (أفسدت) الآلية البائسة تلك، في تقديم شعرنا اليوم، وها، نحن نسمع، ونستمتع بقراءة ومعاينة المئات من القصائد الجميلة، عبر مقاطع صوتية مصوّرة، نكرر سماعها ومشاهدتها، صحبة الموسيقى والضوء والصورة. 
أما إذا كان البعضُ ما زال يعتقد بأنَّ الشعر قادرٌ على صناعة التغيير، وإحداث نقلة في مجتمع ما، ذلك لأنه معجزٌّ في أفواه البعض، فهذا ما لا يمكنني تصديقه، ذلك، لأنَّ الشعرَ بحسب (جاستون باشلار) إنما يتحقق في لحظة يسميها (اللحظة الميتافيزيقية) إذ يتخلى الجسدُ فيها عن اجناسيته كاملةً، ليحلَّ في اجناسية جديدة، خارج حدود الذكر والانثى،
تتغير فيها أفعال وإرادات الجسد التقليدي.
 لم  يعرف جمهورُ الشعر والنقدِ عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف وبلند الحيدري ورشدي العامل وفاضل العزاوي وسركون بولص وسامي مهدي وزاهر الجيزاني والعشرات من الشعراء العراقيين والعرب بوصفهم شعراء مفوّهين، 
يقبضون على المنصّة، كما كان يفعل عبد الرزاق عبد الواحد وأمثاله، يومذاك، إنما كانوا يتأملون مشاريعَهم الشعرية خارج المهاترة والادعاء، وبعيداً عن المنصّات وأكفِّ الجماهير. الشعر اليوم قضية أخرى، فعل من افعال الذين أوتوا نصيباً من الأخيلة والتأمل، ملاحقةٌ صامتة، لما يعتمل في النفس الانسانية، حوار يكتملُ بالفراغ والهمهمات. وبحسب هيدغر فالشاعرُ لا يتوقف عن التواري.