{بصـمـة الصــور الرقميَّـة}.. كنزٌ مــن المعلومــات لا يمكن تخيلـه

علوم وتكنلوجيا 2021/04/01
...

   واشنطن: بي بي سي
يقولون إنَّ الصورة بألف كلمة، لكنْ في عصرنا الحالي هناك في ثنايا الصور الرقميَّة التي نلتقطها بكاميراتنا الحديثة، ما هو أكثر من ذلك بكثير؛ كما يقول الباحث جيرون أندروز.
في الثالث من تشرين الأول 2020، نشر البيت الأبيض صورتيْن للرئيس الأميركي وقتذاك دونالد ترامب، وهو يوقع أوراقاً ويطلّع على إحاطات. قبل ذلك بيومٍ واحدٍ، كان ترامب قد أعلن أنه أصيب بفيروس كورونا المستجد، ما جعل خطوة نشر هاتين الصورتين، تبدو كما لو كانت محاولة لإظهار أنه في صحة طيبة. وقد نشرت كريمته إيفانكا إحدى الصورتين عبر حسابها على موقع تويتر، مع تعليق يقول:

"ما من شيء يمكن أنْ يوقفه عن العمل من أجل الشعب الأميركي. دون هوادة!" لكنَّ أصحاب العيون المدققة لاحظوا شيئاً ما بدا غير معتادٍ في صورتيْ ترامب هاتين.
فالصورتان، اللتان التُقِطتا في غرفتيْن مختلفتيْن في مركز والتر ريد الطبي العسكري الوطني، وظهر ترامب في إحداهما مُرتدياً سترة بينما اكتفى في الأخرى بقميص أبيض اللون، أوحيا - على ما يبدو - بأنه يمارس واجباته الرئاسيَّة طوال اليوم، برغم مرضه، خاصة في ضوء تزامن نشرهما مع التصريحات التي تحدثت عن أنه يتمتع بصحة جيدة، وأنه يؤدي عمله بشكلٍ معتاد. لكنْ خانة التوقيت الظاهرة على طرفيْ الصورتين، أشارت إلى شيء مختلف، فقد أظهرت أن الفارق الزمني بين كل منهما لم يتجاوز 10 دقائق.
 
عواقب غير مرغوبة
لكن خانة التوقيت الموجودة في الصور الرقميَّة ليست وحدها التي تجلب عواقب غير مرغوبة. ويمكننا أنْ نذكر في هذا الشأن ما حدث مع جون ماكافي، مطور برنامج مكافحة الفيروسات الذي يحمل اسمه. ففي العام 2012، كان هذا الرجل فاراً من سلطات دولة بليز الواقعة في أميركا الوسطى. وقتذاك تعقبه مصورون يعملون لحساب مجلة "فايس" ونشروا صورة له على شبكة الإنترنت، تحت عنوان يقول: "نحن مع جون ماكافي الآن، أيها البلهاء". ومن دون أنْ يدرك هؤلاء المصورون أو أنْ يقصدوا أيضاً، كشفت البيانات الخاصة بموقع التقاط الصورة، والتي تظهر عليها بشكل تلقائي، عن أنها أُخِذَت في غواتيمالا، وهكذا سرعان ما عُثر على ماكافي، قبل أنْ يُعتقل.
 
البيانات الوصفيَّة
فعندما تلتقط صورة، يُخزِّن هاتفك الذكي أو آلة التصوير الرقمية التي تستخدمها، ما يُعرف بـ "البيانات الوصفيَّة"، ضمن ملف الصور الخاص بهما. وبشكل تلقائي وعلى نحوٍ متطفلٍ كذلك، تحجز تلك البيانات لنفسها مكاناً في كل صورة تلتقطها. وإذا أردنا تعريف "البيانات الوصفية"، فسنقول إنها بيانات بشأن البيانات في حد ذاتها، إذ تقدم معلومات للتعريف بأمور متعلقة بالصورة نفسها، مثل وقت التقاطها ومكانه، ونوع الكاميرا التي استُخْدِمَت في ذلك.
ومع أنَّ محو هذا النوع من البيانات ممكن، باستخدام أدوات يمكن الاستعانة بها مجاناً مثل برنامج "إكزيفتول"، فإنَّ الكثيرين لا يعرفون بوجودها حتى، ناهيك عن استخداماتها المحتملة، لذا فلا يكترثون بالقيام بأي شيء حيالها، قبل نشر صورهم على الإنترنت. ورغم أنَّ بعض منصات التواصل الاجتماعي، تزيل المعلومات الخاصة بتحديد الموقع الجغرافي من الصور التي تنشرها، فإنَّ الكثير من المنصات والمواقع الأخرى لا تفعل ذلك.
وبينما ثبت أن الافتقار للوعي بهذا الأمر، كان مفيداً للمحققين العاملين مع أجهزة الشرطة، إذ ساعدهم على التعرف - مثلا - على أماكن المجرمين، ممن غفلوا عما يمكن أنْ تكشف عنه هذه "البيانات الوصفية"، فقد مثلَّت تلك الغفلة أيضا، مشكلة تهدد خصوصية المواطنين الآخرين الذين يحترمون القانون، إذا بات بوسع السلطات تعقب أنشطتهم من خلال الصور التي ينشرونها، على منصات التواصل الاجتماعي. ولسوء الحظ، بمقدور المجرمين الأذكياء استخدام الحيل ذاتها التي يمكن للشرطة اللجوء إليها للتعرف على الموقع الذي تم فيه التقاط صورة ما، ما قد يؤدي إلى تعريضك لخطر الوقوع ضحية لجرائم مثل السطو والملاحقة.
لكن التفاصيل المخفية في ثنايا الصور الرقمية، لا تقتصر على "البيانات الوصفية". فهناك أيضا عنصر تعريفي فريد من نوعه، يربط كل صورة تلتقطها بالكاميرا التي استُخْدِمَت في ذلك. ويتمثل هذا العنصر في شيء ربما لن تشك فيه قط، بل إن المصورين المحترفين أنفسهم، قد لا يدركون وجوده، أو يتذكرون ذلك.
لفهم طبيعة ذلك العنصر، يتعين علينا أولاً فهم الكيفية التي تُلتقط بها هذه الصورة أو تلك. بداية يمكن القول إن المكون الرئيس لكل الكاميرات الرقمية، بما فيها تلك المدمجة منها في الهواتف الذكية، يتمثل في جزءٍ يُعرف باسم "حساس التصوير" أو "مستشعر التصوير"، وهو عبارة عن "شبكة إلكترونيَّة" معقدة من أشباه الموصلات، تتألف من ملايين من دوائر السيليكون الحساسة للضوء القادرة على امتصاص الفوتونات (الضوء). وبسبب ما يُعرف بـ " الظاهرة الكهروضوئية"، يؤدي امتصاص الفوتونات، إلى طرد الإلكترونات إلى الخارج.
بعد ذلك، يجري قياس شحنة الإلكترونات المنبعثة من كل دائرة من دوائر "حساس التصوير" هذا بشكل رقمي، وتحويلها إلى قيمة رقمية كذلك. وينتج عن ذلك بلورة قيم رقمية، تُحدد كل منها مقدار الضوء الذي جرى رصده منبعثا من كل دائرة، وبذلك تتكون الصورة، وهو ما قد نصفه بـ "الرسم بالضوء".
وفي أوساط من يستعينون بالصور الرقمية كأدلة في القضايا الجنائية، تُعرف بصمة "مستشعر التصوير" هذه بـ "عدم تماثل استجابة الصورة". وتقول جيسيكا فريدريتش، الباحثة في جامعة بينغامتون في ولاية نيويورك الأميركية، إنه من الصعب للغاية حذف هذه "البصمة"، حتى إنْ حاول المرء ذلك، فهي موجودة بشكل راسخ في "مستشعر التصوير". وتشير فريدريتش إلى أن تلك "البصمة"، موجودة كذلك بشكل متعمد، لا عن غير قصد، كما هو الحال مع "البيانات الوصفية" الخاصة بالصور.
 
صور مفبركة
ويتمثل الجانب الإيجابي في وجود تلك البصمة، في أنه يساعد الباحثين مثل جيسيكا فريدريتش، على تمييز الصور الزائفة والمفبركة، وهو ما يكتسي بأهمية لا يستهان بها. فلأن الصور تشكل - من حيث المبدأ - مرجعاً ثرياً بالتفاصيل للعالم المادي؛ يمكن استخدامها على صعيد الاستدلالات والاستنتاجات وإثبات أشياء بعينها، في ضوء أنها تصور ما هو موجود بالفعل. لكن في ظل المناخ الحالي الحافل بالمعلومات المُضللة، التي تتفاقم بفعل العدد الكبير من البرامج المتاحة لتحرير الصور، بات من المهم على نحو متزايد، أن يجري التعرف على أصل الصور الرقمية وطبيعتها، وما إذا كانت حقيقية أم زائفة.
وقد حصلت فريدريتش على براءة اختراع تخص استخدام تقنية بصمة "عدم تماثل استجابة الصورة". وأُقرت هذه التقنية للاستخدام رسميا كدليل جنائي، في القضايا التي تنظرها المحاكم الأمريكية. ويعني ذلك أنه سيكون بوسع المحققين، تحديد المناطق التي جرى التلاعب فيها في تلك الصور، وربطها بكاميرات بعينها، أو التعرف على تفاصيل عمليات المعالجة، التي تعرضت لها.
وقد يؤدي وضعنا لقضايا الخصوصية هذه، موضع الاعتبار، إلى لفت انتباهنا إلى تقنية تعرف أخرى مشابهة، تُزود بها هذه المرة، كثير من الطابعات الملونة. إذ تضيف هذه الطابعات، نقاط تعقب سرية صفراء اللون، إلى الأوراق التي تُطبع بواسطتها. وتكشف هذه النقاط، غير المرئية بالعين المجردة، عن الرقم المتسلسل الخاص بالطابعة، والوقت واليوم الذي طُبِعَت فيه الورقة. وفي عام 2017، ربما يكون مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (إف بي آي)، قد استعان بتقنية النقاط الخفية هذه، لتحديد هوية من سرّب وثيقة تخص وكالة الأمن القومي في البلاد، وتحتوي على تفاصيل بشأن تدخل روسي مفترض، في الانتخابات الرئاسية التي أُجريت عام 2016 في الولايات المتحدة.
وبغض النظر عن رأيك الشخصي، في مسألة كشف أسرار من هذا النوع، فلا شك في أن تقنيات التجسس والمراقبة هذه، يمكن أن تهددنا جميعا. وقد أعربت المفوضية الأوروبية عن مخاوفها في هذا الصدد، قائلة إن تلك الأساليب قد تؤدي إلى تآكل حق الفرد "في الخصوصية والحياة الخاصة". وإذا اعتبرنا أن "بصمة الصور الرقمية" تماثل النقاط الخفية التي توجد على الأوراق المطبوعة، فإن ذلك قد يدفعنا إلى التساؤل، عما إذا كانت تلك البصمة، تشكل بدورها انتهاكا لحرية كل منّا في حماية بياناته الشخصية من عدمه.
فبالرغم من نزعتنا المزمنة لكشف النقاب عن أنفسنا عبر ما ننشره على الإنترنت، فإننا نحتفظ وبشدة في الوقت نفسه، بالحق في حماية خصوصيتنا خلال استخدامنا للشبكة العنكبوتية. ومع أنه ينبغي أن يكون بوسعنا - من حيث المبدأ - تحديد حجم المعلومات الشخصية التي نتداولها عبر الإنترنت مع الآخرين، فإن ذلك قد يبدو أمرا بعيدا عن المتناول، في حقيقة الأمر. ففي ضوء ما بتنا نعرفه الآن عن تقنيات تتبع الصور، ربما أصبحت مسألة قدرتنا على التحكم في ما نكشفه للآخرين من معلومات عن أنفسنا، مجرد وهم من جانبنا، بأننا نمسك بزمام الأمور في هذا الشأن، ليس إلا.
على أية حال، من الصعب للغاية تجنب تسجيل "البيانات الوصفية" التي توجد بشكل معتاد في الصور الرقمية، وهو ما يعني أنه يتعين عليك محوها، بعد أن يجري تسجيلها. أما المعلومة الوحيدة التي يمكنك تحاشي أن تُسجّل مسبقاً، فهي تلك المتعلقة بتحديد الموقع الجغرافي الذي التُقِطَت فيه الصورة. 
أما حذف البيانات الخاصة بـ "عدم تماثل استجابة الصورة"، فأكثر صعوبة من ذلك بكثير. ومع أنه من الممكن فنياً، كما يقول فريد، تقليل قابلية رصد هذه البيانات والتعرف عليها، عبر جعل الصورة أقل جودة؛ لكن لأي درجة يمكن أن يكون ذلك مجدياً؟ يعتمد ذلك بالطبع على العديد من العوامل، من بينها نوع الجهاز الذي استُخْدِمَ لالتقاط الصورة، بالإضافة إلى الخوارزمية التي جرى استخدامها لاختبار مدى التشابه بين "بصمات الصور" وبعضها بعضا، وهو ما يعني أنه لا يوجد حل واحد، يمكن الاستعانة به لمحو تلك البصمات، على اختلافها، بين كاميرا وأخرى.
إذا، ما هو مدى القلق الذي ينبغي أن يساورنا بشأن "بصمات الصور" هذه، وما يمكن أن ينجم عن التعرف عليها؟ وعندما سألت الباحثة جيسيكا فريدريتش عن التبعات المترتبة على الاستخدامات المختلفة لتلك "البصمات"، ردت عليّ بصراحة قائلة: "يمكن للنجار فعل العجائب بمطرقته، غير أن هذه المطرقة قد تشكل أداة للقتل كذلك". بطبيعة الحال، لا نوحي هنا بأن البيانات المخفية في صورك الرقمية يمكن أن تكون مميتة، لكن تلك الباحثة تشير بهذا التشبيه، إلى أن تقنية مثل هذه، قد تلحق بك الضرر، إذا وقعت في الأيدي الخطأ.
في نهاية المطاف، لا يجب أن تكون دونالد ترامب أو جون ماكافي، لتتأثر بظهور "بصمات" الصور أو بياناتها الوصفية، ما يعني أنه ينبغي عليك في المرة المقبلة، التي تأخذ فيها صورة باستخدام هاتفك الذكي، أن تفكر قليلا في أن حجم المعلومات الذي ستكشف عنه هذه الصورة، قد يفوق كثيرا، ما سيظهر أمام عدسة الكاميرا.