في عصر النهضة العربي

ثقافة 2021/04/03
...

  صفاء ذياب
 
 
يحدد الدكتور سعيد علوش؛ في معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، تمثيل الآخر بأنه "دراسة صورة شعب عند شعب آخر بوصفها صورة خاطئة"، وهو ما أكدّته دراسات الاستشراق وفي مقدمتها مؤلفات إدوارد سعيد وعبد الله العروي وحسن حنفي، فالآخر هو المتحقق ذهنياً في وعي الذات، فعملية وعي الذات ترتبط ارتباطاً مباشراً بهويتها مقارنة بالآخر الذي تميزت عنه. البحث عن الذات يقابله؛ بشكل أو بآخر، البحث عن الآخر، ومن خلال المقارنة تتشكّل التمثيلات، ومن ثمَّ المقارنة التي من شأنها أن تعطي صورة واضحة للذات وللآخر في الوقت نفسه.
وعلى الرغم من أن تمثلات الآخر العديدة، غير أن ما يعنينا هنا ليس الآخر في الواقع بقدر ما هو صورة الآخر في المتخيل، ومعروف أن صورة الآخر ليست هي الآخر، صورة الآخر بناء مشكّل في المتخيل وفي الخطاب، أما الآخر فهو "الكائن الذي يتحرك في الواقع. والصورة ليست هي الواقع، غير أن الصراع حولها من رهانات الواقع"حسب رأي نادر كاظم.
وبرؤية مبسطة، فإننا عربياً نلاحظ انغلاق المجتمع العربي على حاله وعدم اختلاطه مع مجتمعات أو أقوام أخرى؛ سوى العثمانيين والإرساليات المسيحية، قبل القرن التاسع عشر، هذا الانغلاق جعله خائفاً من أي اختراق لبيئته، لاسيّما فيما يخص الأوروبيين الذين كانوا بالنسبة له بعيدين عن أرضه وعن طبائعه. لذا بمجرد دخول القوات الفرنسية لمصر في العام 1798 بقيادة نابليون بونابرت، بدأت الحجب تتكشّف، فهذا الآخر الذي جاء مستعمراً أبهره بالتطور الذي وصل إليه، اختلافه في السلام والملبس واللغة والقوانين التي جاء ليطبقها على أرض جديدة.
شكلت الصدمة الأولى التي تعرَّض لها المجتمع العربي بدخول القوات الفرنسية توتراً واضح المعالم تمثَّل بطرح أسئلة جديدة عن واقعه، منها أسئلة عن الدين والحكم والعدل والسياسة والحرب، فضلاً عن أسئلة بشأن التعليم والبيت والتربية وغيرها الكثير..
الصدمة الأولى أدخلت العرب في مخاض جديد، وهو أن انغلاقهم لا يعني أنَّه ليس هناك عالم مختلف عنهم، ومن ثمَّ؛ كان عليهم اكتشاف هذا العالم عن قرب، ومن الداخل، فكانت الصدمة الثانية التي تمثَّلت بالرحالة العرب الذين سافروا إلى دول أوروبا، بعضهم للدراسة، وبعضهم للعمل، وآخرون للسياحة، وبسبب هذه الرحلات بدأ الصراع بين الذات وبين الآخر، كما أنَّ "تغير ذهنية الرحالة يستتبعه قلق وتمزق داخلي إذ تتنازع المرء مؤثرات متناقضة: فمن جهة تمسك العربي بهويته الشرقية العربية القائمة على الموروث التليد الذي مثّل الاستمرار في الزمان، ثم أثار إعجابه بالغرب وتقدمه سؤالاً آخر: إلى أي حد كان تمسكه بهذا الموروث العربي الأصيل سبب جموده، وتخلفه. ولذلك رغب، من جهة ثانية، في اقتباس الحضارة الغربية التي عدها القوة والتطور، غير أنه خاف أن يكون اقتباسها سبب ضياع وفقد الهوية. وتجلى هذا الصراع الفكري والحضاري بوضوح في أدب الرحالين لأنهم لمسوا عن كثب الفوارق بين الحضارتين العربية والأوروبية"، وهو ما أشارت إليه الدكتورة نازك سابا يارد في كتابها (الرحّالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة).
صدمة الآخر الثانية بدأت مع البعثات التي أرسلها محمد علي باشا إلى باريس التي انطلقت في العام 1826 حينما بعث رفاعة رافع الطهطاوي؛ وهو الأزهري، مشرفاً على طلبة للدراسة في باريس، وبعد ثلاث سنوات من عودته في العام 1831، نشر الطهطاوي كتابه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) الذي دوَّن فيه مشاهداته في العاصمة الفرنسية باريس، ليأتي بعده أحمد فارس الشدياق الذي هرب من لبنان وعاش في لندن ثلاث سنوات، وسنوات أكثر للعمل في مالطا؛ إذا ألف كتابه المعروف (الواسطة في معرفة أحوال مالطة)، ومن ثمَّ فرنسيس فتح الله مرَّاش، وفرح أنطون، وقبلهما خير الدين التونسي، و"نلاحظ أن كلاً من الطهطاوي وخير الدين والشدياق ومرَّاش قد أحسن بالحاجة إلى تدوين مشاهداته وانطباعاته في أسفاره، لا حاجة ذاتية، بل حاجة سياسية واجتماعية، إذا صح التعبير. أو قل، هي الذاتية الفردية التي اتسعت حتى غدت قضايا السياسة والاجتماع حالات انفعال فيها. ذلك أن رحالينا شاهدوا واقع المجتمع الغربي وشعروا بالفرق الشاسع بينه وبين مجتمعهم الشرقي في المضمار السياسي والاجتماعي والعلمي، فأبدوا إعجابهم بمعظم ما رأوا في الغرب، كما أعربوا عن ألمهم لتخلف الشرق، وأحسوا بأن هذا الشرق لن يتطور إلا إذا اقتبس علوم الغرب ونظمه السياسية والاقتصادية. وعليه قال الطهطاوي إنه وصف مشاهداته في فرنسا كي يوقظ (من نوم الغفلة سائر أمم الإسلام من عرب وعجم)، بل حث الشدياق معاصريه على السفر إلى أوروبا ليدونوا مشاهداتهم في كتب تفيد الشرقيين... إلا أن رحالينا نظروا إلى الحضارة الغربية بعيون شرقية كوّنها موروثهم التاريخي والحضاري والفكري والديني، ومن هنا نشأ الصراع الفكري والحضاري" وهذا برؤية نازك سابا يارد، مبينة أن الرحالة اهتموا بالنظر إلى الآخر من جوانب عدَّة، لكن أهمها كان اهتمامهم بنظم الحياة اليومية، والعدالة والديمقراطية، وكان في مقدمة اهتمامهم التفاتهم للنظم السياسية التي كانوا يعدونها هي المؤسسة الرئيسة للتحولات التي تطرأ على أي بلد، ولا تكتم الدكتورة نازك سابا يارد رأيها، حين تصرح أن "أهم الأسباب التي دفعت الرحالين المسلمين، لا المسيحيين، إلى العناية بالنظم السياسية هو شعورهم أن انتصار الغرب السياسي والاقتصادي والحضاري يهدّد الإسلام نفسه إن لم يتدارك الأمر بالإصلاح. وقد عبّر رفاعة عن هذا الإحساس حين قال: (لولا أن الإسلام منصور بقدرة الله سبحانه وتعالى لكان كل شيء بالنسبة لقوتهم (يعني الإفرنج) وسوادهم وثروتهم وبراعتهم وغير ذلك)".
وغالباً ما كان التنويريون العرب يقارنون بين حالهم وما وصل إليه الغرب، هذه المقارنة التي كان دافعها الأوّل إصلاح التخلّف الذي تعيش فيه المجتمعات العربية، ومن ثمَّ سعيهم لإخراج هذه المجتمعات من الجهل بما يدور حولهم، وبالحال الذي وصلوا إليه.
أهم ما قدمه اثنان من أوائل التنويريين العرب، وهما رفاعة رافع الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق، أنَّهما تمكّنا من قراءة الواقعين؛ العربي والأوروبي، وكتبا مقارنين بين هذين الواقعين، في سعيهما لإيقاظ العقل العربي من سباته، ودعوتهما لتكون مجتمعاتهما ضمن حركة التاريخ التي لن تتوقف، وبدلاً من أن تكون تلك المجتمعات من التاريخ، طالبا أن تكون في التاريخ نفسه... فأشارا إلى أنَّه كان من نتائج الثورة الفرنسية فصل الدين عن الدولة، وإن بقيت الكاثوليكية دين الملوك الفرنسيين ومعظم الشعب. ولكن يبدو أن الطهطاوي لم يلحظ ذلك، أو أنه لم يعره اهتماماً خاصاً. ففي كل ما أورده عن نظام الحكم الدستوري في فرنسا، لم يشر مرّة واحدة إلى أنه نظام علماني فصل الدين عن الدولة، بل حاول، على العكس من ذلك، أن يجد في الإسلام والشريعة أسس نظم الحكم البرلماني الأوروبي.
أما الشدياق، فليس في دين آبائه ما يرتبط بالنظم السياسية من قريب أو من بعيد، بل رجع إلى قول المسيح "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" ليؤكد "أن المسيح ورسله أقروا ذوي السيادة على سيادتهم". فما دام المسيح قد أوضح أن لكل من الدين والسياسة ميدانه الخاص، سهل على الشدياق أن يؤمن بوجوب الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية. ودعا إلى سيادة الأولى على الثانية حين عرض لمحنة أخيه أسعد وتهجم على الكنيسة المارونية واتهمها بالخروج عن ولاية السلطان العثماني وإقامة دولة داخل دولة حين حاكمت أسعد بدلاً من أن توكل أمره إلى حاكم شرعي.
غير أن الشدياق لم يبال كثيراً بنظم الحكم في أوروبا، وحين التفت إليها قيّمها تقييماً أخلاقياً لا سياسياً، ولم يقرنها بنضال الشعب من أجل الحرية والمساواة، بل بفكرة العدالة بمعناها القانوني. فرأى، مثلاً، أن مظاهر العدل التي شاهدها في انكلترا جاءت نتيجة اختصاص الموظفين كلٌّ بعمله، ومعرفتهم واجباتهم وحقوقهم، ولم يبيّن أن هذه العدالة كانت ثمرة صراع طويل بين سلطة حاكمة مستبدة وشعب قيدها تدريجياً. وعليه استنتج الشدياق أن مظاهر الظلم في الشرق ناجمة عن أن الشرقيين لا يعرفون حقوقهم وواجباتهم، ويتدخلون في ما لا يعنيهم.