ما وراء الكتابة

ثقافة 2021/04/04
...

حميد المختار 
 

أكتب لكي أعيد صياغة حياتي، منذ نعومة أظفار الأحلام وحتى شيخوخة مراياي... حين ذاك أيقنت أن الكتابة لا تعني الدرس الوعظي بأهدافه التربوية وإنما هي رحلة الامتاع والمؤانسة الفعلية للكلمة حين تحيل البياض المفترض إلى سواد مثقل بالأحداث، حتى العبادات تصبح في معيار الكتابة قيمة جمالية هذه القيمة هي التي توصل العارف إلى حقيقة جمال الله، من هنا يبدأ الأمر حين نضع الحرف الأول من الكلمة على الورق ونمضي في دروب الآلهة ميمّمين شطر جغرافيات أسرارنا، فاتحين الكوى وراسمين خرائط طرق النجاة من الهلاك، نقرأ الكشوف والخيال، صوتنا فردانيٌّ خالصٌ، نخوض غمار الأحلام لكي نؤسس ونخلق أسراراً ومفاتيح سردية، ولأننا ورثة أنبياء في السرد لذلك علينا حمل هذه الأمانة الكبيرة على عواتق الكلمات، مؤهلون دائماً لدخول الكوابيس من مراياها كما دخلها (بورخس) ذات يوم فقادته إلى كوابيس المتاهة، ونحن أيضا اكتشفناها في طفولاتنا المنزوية المحاصرة ببيوت بلا أبواب أو بأبواب تغلّف بيوت الطفولة، ومن بعدها سجون الدكتاتور بأبوابه الحديدية ومزاليجها المرعبة.. يقول (البرتو مانغويل): "اننا نحاول رواية ما حدث لكن كلماتنا غالباً ما تخذلنا وهكذا نتعلم بعد عدة اخفاقات أن العثور على أقرب نسخة صادقة عن الواقع ممكن في القصص التي نكتبها فقط في أكثر أعمالنا الأدبية قوة وتحت شبكة من السرد يمكن أن نميز وجه الواقع كوجه من وراء قناع، فالكذب هو أفضل أساليبنا لقول الحقيقة... "سردنا إذن هو الوسيلة الوحيدة ليس لفهم العالم فحسب وإنما لتسجيل تجاربنا عن العالم وعن أنفسنا وعن الآخرين طبعاً... السرد هو ذاكرتنا لهذا حين كنت سجيناً شارفت على فقدان ذاكرتي شيئاً فشيئاً لذلك عمدت على استعادتها بالكتابة وكنت أخبئها هناك في قصص وفصول من روايات مبتورة وغير مكتملة ثم أحفظها في مكتبة صغيرة صارت أشبه بالخزانة الحديدية المغلقة، هناك تجد طفولتي ومراتع صباي وحبّي الراحل في أزقة حياتي الماضية، شوارع وأزقة وحدائق وأصدقاء قدامى موتى وأحياء حتى ضجّت الخزانة بكل هؤلاء، فما هي الطريقة المثلى لتحريرهم واخراجهم من ظلماتهم العمياء تلك؟، إنها (الكتابة) التي ستكون اداة لتحرير الأرواح قبل الجسد من غفلتها ومن أغلالها... الكتابة ستصبح فيما بعد تحليقاً خفياً لمقامات وممالك خارج حدود الزنزانات البشرية، والسرد هنا سيكون صانعاً لتاريخ بديل عن تواريخنا المزيفة تلك التي كتبها الملوك الحمقى والمجانين... إننا محكومون بالأدب الذي يعني فيما يعني (الأمل) لذلك حين نكتب لن تقدر على صدنا أعتى الدكتاتوريات، وقد مررنا بها وكتبنا أجمل قصصنا ورواياتنا.. أليس محزناً أن نكتب في خلواتنا ليلة إثر ليلة ونحن نحدق في الدورات السريعة للزمن بلا خلٍّ أو نديم سوى تلك الوحدة ووحوشها الشرهة...! حينذاك لا تسأل عن الطريق لأنك لو سألت وعرفت فلن تكون قادراً على الضياع.