التقنيَّة السرديَّة في شغب أنثوي

ثقافة 2021/04/04
...

   أحمد الشطري
 
لعل من بين أهم مميزات قصيدة النثر، هو انفتاحها على الفنون الأخرى، وانطواؤها على تقنيات متعددة قد تظهر جميعها او بعض منها في النص، وربما أضفت هذه التقنيات الى النص النثري نسقا جماليا وايقاعيا، أعتيض فيه عن جمالية الشكل وتراتبية الايقاع، وهذا ربما كان بعضا مما أسهم بنقله الى منطقة الشعر الى جانب التقنيات الاخرى التي يتمتع بها هذا النص، ان انفتاح قصيدة النثر على الفنون الاخرى أسهم بشكل كبير في ترسيخ جذورها، ومنحها قدرة فائقة على المنافسة، ولعل من بين اهم تلك الفنون التي أضفت قيمة جمالية راسخة لقصيدة النثر، هو فن السرد بتقنياته القادرة على خلق قوة جذب فائقة للنص تمكنه من توثيق علاقته بالقارئ.
وتأسيسا على ما سلف يمكن لنا 
أن نقرأ مجموعة الشاعرة رسمية محيبس الموسومة بـ(شغب أنثوي) الصادرة عن دار قناديل بطبعتها الثانية 2020 والتي ضمت اثنين وخمسين نصا نثريا.
وبدءا من العنوان الذي يمثل بدلالته الايحائية والرمزية مفتاحا أوليا يمكن ان يحدد المسار القرائي للنصوص، وما يمكن ان ينتج عنها من قيم فكرية وجمالية وفنية، فإن العنوان في هذه المجموعة ينبئنا اولا وقبل كل شيء، بأنها ليست سوى صور لنوع من (الشغب)، ولكن هذا الشغب يمكن ان يكون شغبا محببا من خلال ما ترسمه الصورة التقابلية للمضاف اليه، التي تنتج عن ثنائية (طفولي ــــ أنثوي)، والتي نحاول ان نقصرها هنا على ما نظنه مقصودا بالمعنى القاموسي لمفردة (شغب) الدالة على (الفوضى) ولكن هذه الفوضى هي فوضى 
ذات ابعاد جمالية ولا يمكن ان تشط نحو الابعاد القبيحة، كونها 
نتاج البراءة الممتع المرتكز على 
تقابلية الثنائية السالفة(طفولي ــــ انثوي).
اتخذت نصوص المجموعة البناء السردي فضاء ترتسم من خلاله صورة البوح الشعري المحمل بصور تجمع بين الواقع والحلم - الواقع 
بكل ازمنته المتحركة، والحلم 
بحالته المشعة- بيد ان الواقع لدى الشاعرة لا يرتسم وفق مسمياته المألوفة او المتداولة؛ وانما وفق ما تقترحه من صور رمزية تنطوي على جملة من الدلالات تمنح المتلقي فضاء واسعا للمقترحات القرائية التي تتيح له ان يتمكن من فتح مغاليق النص. 
ففي نص (أمواج) وهو سادس نصوص المجموعة تقول الشاعرة: (النهر الذي ورثته عن أبي/ يتنهد بارتياح/ فقد تناهى اليه صوت سيول جارفة/ وأمواج قادمة لم تكن في الحسبان/انه ينام في سريره مطمئنا/ هازئا بحكاية العطش/ وتوقعات النجوم/ انه وليد السماء الذي لا يفطم ابدا)، ولعلنا نتبين 
بشكل جلي الاسلوب السردي الذي يغلف فضاء هذا النص، والذي يحكي لنا عن رحلة ذلك النهر الموروث، والذي يمكن أن تتسع دائرة احتماليات دلالاته الى صور متعددة قبل أن تمنحنا الشاعرة في ختام القصيدة اشارة ربما تقربنا 
من الصورة المحتملة لذلك النهر. 
اذ تقول: (هو نهر من قصائد راقصة). والشاعرة بهذه الجملة حددت لنا المساحة التي يمكن لنا ان نبحث فيها عن مدلول النهر الموروث اولا، وثانيا شكلت نقطة اكتمال الحكاية، ولكن هذه الحكاية لم تجرِ وفق تقنيات السرد المتعارفة، وانما كانت تجري بأسلوب مركز يستند الى نسق ايقاعي يحدده التوزيع الهارموني "harmony" للجمل والمفردات.  
في نص آخر يحمل الرقم ثمانية عشر بعنوان (حرائق) تقول رسمية محيبس: (دائما أتخيل أن امرأة اخرى ستحتل مكاني/ إذا مضيت غدا لمصيري المحتوم/ ستعبث بمكتبتي/ وتصنع من دفاتري/ طائرات ورقية لأطفالها/ عندها ستحلق قصائدي عاليا/ أو ربما اشعلتها لتستضيء بها/ فأحرقها لهيبها/.... / قد تعثر على رسالة منك/ نسيت أن أمزقها/ فتدسها بجيوبها/ مع انني كنت أحرق رسائلك/ على عادة الهنود الحمر وهم يحتفون 
بموتاهم/ وأخيرا فقد نجا شيء من المحرقة). 
تقدم لنا الشاعرة في هذا النص حكاية افتراضية لما تمكن 
ان تفعله المرأة الاخرى التي ستحتل 
مكانها بآثارها وباقي اشيائها 
بعد رحيلها، غير انها تصر على أن تلك الفعال التي تحاول ان تمحو 
إثرها انما هي ترسخ ذلك الأثر كونه يتمتع بخاصية الخلود 
فالقصائد ستحلق عاليا او 
تتحول الى ضوء، بينما تقدم لنا في المقطع الاخير صورة مبهرة هي تشبه احراقها لرسائله باحتفاء 
الهنود بموتاهم من خلال إحراق جثثهم. 
إذن فإن الشاعرة تحاول ان تجعل 
من تقنية السرد سمة مُمَيِّزة 
لنصوص هذه المجموعة، التي 
تحاول فيها أن تنقل لنا بطريقة المشاغبة صورة لحياتها ومشاعرها واحلامها، وهي بطريقة ما تشابه الى حد كبير حياتنا ومشاعرنا واحلامنا. وإذا كانت السردية صفة مميزة لتقنيات نصوص المجموعة فإن هناك سمات اخرى تبدو واضحة الحضور في هذه النصوص ونصوص الشاعرة عموما والمتمثل بالحضور البارز لمفردات النهر والماء والاشجار التي لا يكاد نص ان يخلو منها، وحضور هذه المفردات بهذا الشكل الطاغي يعكس لنا مدى تأثيرها في نفس الشاعرة التي عاشت وما زالت تعيش بجوار النهر والاشجار حتى يخيل لنا انهما جزء لا يتجزأ من تركيبة حياتها، فهي تحملهما في دواخلها لدرجة الالتحام.
حتى أصبح النهر رمزا تشير به الى كل مضمر في نفسها، إنه سفينة اسرارها ورغباتها وأحلامها التي تسير طالما كان هناك تدفق لماء 
الحياة.