أحلام هائمة فوق مستنقع ذابل

ثقافة 2021/04/05
...

  عبدالزهرة زكي
 
في هذا العالم
نمضي على سطح الجحيم،
متطلّعين إلى الزهور.
في هذه الهايكو تعبير شعري عن تمزّق الإنسان في الوجود ما بين جحيم حياة فعلي وفسحة أمل متخيل.
القصيدة للشاعر والرسام الياباني كوباياشي إيسا (1763 – 1828 م)، ويكتب بالعربية في كثير من الترجمات كوباياشي عيسى. 
كوباياشي واحد من الشعراء الأربع العظام في تاريخ الهايكو الياباني إلى جنب باشو وبوسون وشيكي. وحياة كل من هؤلاء اتسمت بالاضطراب ما بين تبجيل وتوقير يحظون به وبين عزوف يبدونه عن العالم الاجتماعي ونفور من الآخرين.
في العادة تشكل مظاهر الطبيعة وتحولاتها وكائناتها الصغيرة والنباتات فيها وتغيرات الفصول مصدرَ إلهامٍ لتجارب شاعر الهايكو ولمجال تأمله، لكن في كثير من نصوص الهايكو يتضاءل الاهتمام بالطبيعة حتى، وإن حضرت في النص، وذلك لصالح فاعلية التأمل العقلي الوجداني المبتعث من دواخل الشاعر وسريرته الباطنة.
في نص الهايكو الذي تصدّر هذا المقال يحضر العالم، وهو كناية عن الحياة بمختلف مؤثراتها، في مقابل الأزهار، وهي من مظاهر جمال الطبيعة، لكن ما العالم وما الأزهار إلا عناصر يجري إدراجها في النص وذلك من أجل مرور الذات الإنسانية ما بين انسحاقها وتطلعها، ما بين محنة العيش في جحيم العالم وتوق التطلع إلى الأزهار. العالم بموجب هذا النص مصدر للشر والجحيم بينما الطبيعة (الأزهار) مجال للتوق والتطلع للخلاص من جحيم العالم.
أحد أربعة الهايكو الكبار ماتسو باشو (1644 ــ  1694) يعبّر عن هذا القرف من العالم من خلال رسالة كان قد كتبها إلى صديق له وكان يقول فيها:"الآخرون يزعجونني، ليس من راحة للبال". لكن ماتسو محاط دائماً بتلاميذ مخلصين ويُنظر إليه على أنه أستاذ الهايكو الأعظم، وكان نتاجه الشعري المدخل الأساس الذي نفذ من خلاله الأدباء الإنكليز وعموم الغرب ثم عموم العالم إلى سحر الهايكو الياباني. كنت أقرأ قبل حين عشرين ترجمة مختلفة من اليابانية إلى الإنكليزية، لنص هايكو واحد لماتسو باشو. وهي ترجمات تختلف كثيراً ما بينها تبعاً لنباهة المترجم وذائقته الأدبية وأسلوبه في الترجمة وليس تعبيراً عن فشل فيها. وهذا الهايكو هو الأشهر عالمياً لكثافته وخلاصته المعبرة عن تقنية الهايكو وطبيعته القائمة على مراقبة الشاعر للطبيعة والكائنات فيها:
البركة القديمة--
ضفدع يقفز نحو العمق،
صوت الماء.
في الشعر يستحيل المألوف إلى غريب مدهش، في حين يبدو الغريب مألوفا ومعروفاً، وهذه هي قيمة ما يفعله الشعر.
لكن حتى في هذا النص الذي حضرت فيه الطبيعة بكثافة طاغية من خلال (بركة، ضفدع، ماء) فإن ذات الشاعر تحضر ويجري تأكيدها من خلال رصدها هذه العلاقة المألوفة والمتكررة بين تلك العناصر الثلاثة. 
تمضي الضفدعة وتتوارى في العمق في حين يمضي الشاعر في حياته هائما في أعماق الطبيعة. التبجيل المحيط بباشو لم يحل من دون التفكير دائما بالنأي والهجرة والتنقل وحيداً، نحو العمق، وبعيداً عن الآخرين. 
عزاء الشاعر، بموجب هايكو كوباياشي، هو في (الأزهار)، أزهار الحلم والتطلع. عزاؤه من أجل أن يحتمل تلك المحنة في العالم هو في ما يبتكره وما يعبّر عنه من انسجام مع الطبيعة وتوق لها. يقول هايكو آخر لكوباياشي:
في هذه الأيام الأخيرة،
الأوقات المنحطة،
أزهار الكرز في كل مكان!
ينظر بعض النقاد إلى أن بنية اختصار الهايكو ونظامه المقطعي هما مما يجعلانه مكتفياً بمجرد رصد حالة من الطبيعة كلما كان الشاعر بمواجهتها. وهذا تصور ليس دقيقاً تماماً في كثير من نصوص الهايكو. الأكثر دقة من ذلك هو أن شاعر الهايكو برؤيته الشعرية وبعمقه الروحي والثقافي والإنساني يستطيع حتى من خلال تلك البنية المختصرة والمقيدة بثلاثة أسطر أن يكثف عالما كاملاً من لواعج الروح وجمال الطبيعة وفتنة الشعر. عين الشاعر، رؤيته، هي ما تحرر طاقة الطبيعة وقدرتها على الإدهاش، وإلا فالجميع يمر ببحر يعتم وثمة طيور تلون تلك العتمة، لكن عين ماتسو باشو هي ما تلتقط ذلك الجمال الكئيب:
البحر يظلمُّ
أصوات البط البري
بيضاء باهتة.
للوهلة الأولى يبدو هذا الهايكو، ومثله آلاف من نصوص الهايكو، عملاً أقرب إلى التصوير الفوتوغرافي. لكن النظر في أثر هذا (الستل لايف) في عمق الوجدان الشعري يستطيع وحده بلوغ الطاقة الحركية الكامنة في سكون المشهد. جانب من قراءة الشعر ينبغي أن يركّز على ما لم يقله النص، ما يختفي ما بين الكلمات، وما يختفي هو الطاقة الحركية.
لم يستقر ماتسو باشو طويلاً في مكانٍ مهما حظي في هذا المكان من اهتمام، إنه دائم الطواف ما بين المدن متبعاً أوحش الطرق وأخطرها ليكون دائماً في حضن الطبيعة وفي استقبال دائم التوقع لإلهامها. هذه هي الثقة بقدرة الطبيعة على الإدهاش كلما جرى النظر إليها بعين الشعر، أو أصغي بسمع مرهف لنداءاتها، خذ هذا الهايكو مثالاً من باشو:
في كيوتو،
مصغياً إلى الوقواق،
أتوق إلى كيوتو.
في هايكو آخر يكون الوقواق نفسه ملهماً ولكن هذه المرة للشاعر كوباياشي، الطائر في الحالين يكون حراً في فضاء الطبيعة في حين يكون صوته وسيلة الشاعر للانشداد لهذه الفتنة الآسرة، ومرة أخرى تكون الذات الإنسانية، ذات الشاعر حاضرة بقوة في مركز آخر في النصين بموازاة مركز الطبيعة وطائرها الوقواق:
الوقواق يغني
لي، للجبل،
لي، للجبل.
وفي النصين ثمة شراكة، مقايضة الجمال بجمال آخر، الطبيعة تلهم الشاعر من خلال جمال إنشاد طائرها مقابل نشيد متوقع من الشاعر لتقريظ ذاك الجمال، (تقريظ الطبيعة) وهذا تعبير لافت من عبدالرحمن طهمازي.
في واحدة من أذكى التقاطات كوباياشي يستنطق الشاعر الصمت ويحرك السكون في مشهد راكد وصامت تماماً. وسط هذا الصمت والسكون هنالك ما يتحرك ويعتمل في أعماق الشاعر، وهو بالنتيجة مما تختزنه الطبيعة الساكنة، من حراك، وما تدّخره بصمتها، من كلام. هذا هو نص هايكو كوباياتشي:
أنا وضفدع كبير
يحدّق أحدُنا في الآخر،
فلا يتحرّك أيٌّ منا. 
في السياق التقليدي للهايكو فإن المتوقَّع من الشاعر الاكتفاء برصد الضفدع الصامت والساكن، وهو مشهد ممكن. لكن مرة أخرى يكون الشاعر في تفاعل حي مع الطبيعة إذ تحضر الذات هنا بتماهٍ واضح مع سكون الطبيعة وبمواجهة كائن صغير فيها.
لا يتقيد الشعراء في نوالهم الشعري. لا يستقر الشعر عند صيغ تعبير راكدة، حتى في الحالات التي يكون فيها الشعر مقيداً بصيغ بنائية فنية عصية على التغيير أو على التساهل ازاءها 
كما في حال الهايكو فإن الشعر يعمد إلى تغيير داخلي في صيغ التعبير اللغوي وأحيانا بالتنويع في الداخل من 
الغرض الشعري الواحد. حين مرض باشو وبات في انتظار الموت لم يؤثر أن يخلف قصيدة عن موته كما دأب شعراء الهايكو حينذاك، لكن تحت ضغط تلامذته احتال على إصرارهم فكان الهايكو 
التالي الذي نختم به المقال، وهو هايكو يعبر عن رثائه للعالم أكثر مما يرثي فيه ذاته، لقد خلّف لهذه الذات وهي في لحظة موتها فرصة مواصلة التطلع الذي وقفنا عنده في الهايكو الذي جاء بمستهل المقال:
مريض في رحلة
أحلامي تهيمُ
فوق مستنقع ذابل.