أسئلة السيرة.. نص الانوثة وشعرية الانزياح

ثقافة 2021/04/05
...

  كمال عبد الرحمن
 
شيءٌ من سيرة ذاتية لجرح عراقي يمشي على قدميه، يحمل خشبته على ظهره أربعين عاما ولايجد من يصلبه عليها كما يقول (دعبل الخزاعي)، أو يمشي ويمشي بانتظار نعشه، كما يقول أدونيس (لأنني أمشي يتبعني نعشي).. هذه التفاصيل اليومية كتبتها شاعرة، تعلم وتعرف وتحفظ عن ظهر دمع مسلة الألم العراقي الأعظم، ولأنها كتبت مثل هذا النص المميز فقد كانت تؤرخ للجرح العراقي وللقيامة العراقية التي قامت ولم تقعد، إنه زمن الويلات والانتكاسات، فحصاننا على العكس من حصان طروادة الذي أعاد مجد الأغريق بأسره، حصاننا أعرج وأعور وفاقد الذاكرة، تاريخه سيل من الكبوات التي لاتنتهي إلا لتبدأ من جديد: (ما من سقوط يعادلُ الثقوب بعمقها في جدراننا/ ما دمتُ أنظرُ إلى ألوان ثيابي، وما دمت تدير رأسك نحو متاهات حرب طائفية.. أيضا، في دخولي الأخير إلى (مديرية شهادة الجنسية) /كنتُ أحدق في وجهي المعكوس/ بزجاج البوابة الصقيل/ نويتُ أن أهرب من الذين يطوقون خطواتي بلهفة 
خيط قطعته من سترة/ بسواد له لمعان عيوننا لحظة الاختناق).. النص من مجموعة الشعرية (مائلات من ثقل دمعة) طُبعت على نفقة الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق /2020.
إن تطور النماذج البنائية للقصيدة الجديدة ارتبط منذ البداية بطبيعة استجابة النوع التشكيلي الشعري لمقتضيات هذه النماذج ومعطياتها بدليل أن القصيدة العربية القديمة لم تخضع طوال عمرها الشعري لتطور بنيوي متباين في أنموذجها باستثاء محاولات خجولة لايعتد بها ولايمكن ادراجها في سياق حداثي، فضلا عن أن الواقع الجديد الذي صاحب النقلة الشعرية الكبرى مطلع الخمسينيات فرض أجناسا أدبية وفنية جديدة بتأثير الاتصال الحضاري مع الغرب فكانت الافادة متزايدة من انجازات الفنون الاخرى ومن المعطيات النقدية العالمية وصولا الى ادراك نسبي لضرورةاخضاع البناء للحالة النفسية التي تسود التجربة الشعرية ومقتضيات الموضوع الشعري.
ومن الفنون التي تركت آثارا واضحة في عملية البناء الشعري هي ((القصة)).
الشاعرة ابتهال بليبل تقدم قصة بلد من خلال معاينة فردية لإنسان عراقي يمشي على رؤوس أصابعه خشية إملاق وإهمال وتهميش، بلدنا فرضت عليه الإقامة الابدية في جسد الخراب، أمةالامجاد والتاريخ والحضارات.. ما الذي اصابها حتى تتكالب عليها الدنيا من كل حدب وصوب؟!.. تتكلم ابتهال بليبل.. تحدثنا.. عن واقعة يومية تكرر من خلالها قصة العراق، فالجرح الممتد كما يقول الشاعر الكبير لوركا (من السرّة حتى الرقبة) مكتو بجمر السدى ولايصمت.. وكأن قَدَرَهُ.. الرفض والصراخ بوجه الظلم والباطل أينما حلّا.. تحكي لكم قصة الشاعرة ابتهال قصة شعرية او قصيدة سردية،قد لاتسمعونها كل يوم: (أنا أنحدر، أترهل، كما تفعل نهود الأرامل تحت الثياب/ أنا أسأل عن الحكمة البالغة،كم انحدرن؟/ أنا انتفاخها وتضخّمها/ أنت الدائرة حيث يتعرّج الجلد حول الحلمة الداكنة/ الدائرة.. أول قمر أسمر يبزغ في أفق الطفل).
تتشكل هذه المقاطع من جدلية الأنسنة والشيأنة، بين عوالم يستحضرهن النص، عالم (الآخر) الذي ضربه التشيؤ حتى تيبست حلماته وانقطع حليبه، وعالم (الأنا) الذي شيأنتهُ الأسئلة فلا وصل الى بحر الحرية ولا امتلك ساحل الأمان، عالم غريب مريب يخرج من عباءة أوجاعه الى معطف الأسى والخراب، وحيث يختلط السؤال بالدهشة، فإن الجرح الكبير يكون شاهداً على وجع الأمة ومآسيها، هذا الوجع الذي حاز عليه العراق بتفوق ونجاح مأساوي ساحق، وتقلد أنواط الألم من النوعين العسكري والمدني، وحيث أيضا تبقى بلادنا الرمز الانساني الاكبر الدال على تشيؤ انساننا المعاصر بعد تكبده سلسلة فواجع وسيول كوارث لاتنتهي: (انتظرني العمر كلَّه، يقول الضابط، حتى أنجزها/ رغم أنّني لم أدرب حنجرتي 
على اللكنة/ الحنجرة المُكبلة بالنجاة/ متصفّحاً إضبارتي بتكاسل تحت مظلّة ملونة/ 
في تجاويف رأسي، قلبي/ كل خرائط الحلم بلا أوراق أو حقائب سفر). 
إن ما يدفعنا للحديث عن فنية الشعر وعن لغته وعن نماذج تحقق الانزياح الشعري، هو الابتعاد غير المبرر الذي نتج عن فكرة التأويلية، وفتح الباب أمام التجاورية اللفظية المتجافية والجافة التي تتجاوز حدود المسوّغ للتركيب.
إن التجاورية الجافة غير المبرّر تخلّ بجمالية العبارة، إذإنّ الصدمة الحاصلة بالخرق اللغوي لا تنفذ الى العمق إن لم تكن لها مبرر من الألفية، من دون ذلك لن تنفذ الصدمة إلى العمق وتبقى شيئا سطحيا. واللذة الشعرية في حقيقتها هي ما كانت تضرب في العمق، والتي لا تذعن إلا للطاقة التعبيرية الاضافية للتركيب وليس مجرد خرق لمنطقية اللغة وابتداع تجاورات وصور تحقق لاألفة عالية وتبقى في مجال الجفاء. 
بمعنى آخر،إن أهم مميز للانزياح الشعري أنه يفيد وظيفية تعبيرية واضافة في طاقة اللغة. 
في قصيدة الشاعرة ابتهال بليبل (نهود)، يكون الانزياح لغايات لغوية وابداعية أكثر منه لغايات إخفاء حقائق: (بعينين مغرورقتين بالدخان والتراب، يحفرون/ ببداهة خريف مصفّر الخدين/ ما يؤلمني في عمق هذه المدينة/ الأجساد المطمورة ذاتها- التي تقودك إلى نساء/ يتمرّن خلف جدران/ البيوت التي خلفها انحدرنا/ صراخ لم يستمر، خشيةَ أن نوقظ الذين/ أخذتهم المجزرة منّا). 
إن النص/ القصيدة ليست إلّا كُلاّ يتضمن اجزاء متناسقة ومتماسكة فنيا وعضويا، أي أنها كتلة لغوية ذات خصائص فنية عالية الجودة، وأجود الشعر ما رأيته متلاحما، سهل المخارج، أفرغ فراغا جيدا وسبك سبكا واحدا.
كما تنبني قصيدة بليبل عامة على الاستعارة التي هي صورة من صور (المجاز) في اللغة، إذ تتشكل هذه القصيدة من خلال عدد كبير من الصور، يقوم بعضها على الجدلية، والآخر على التناقض وغيره على المفارقة وغير ذلك. في قصيدة (نهود) للشاعرة بليبل نقرأ: (ماهيتي... ناقصة/ والوجود كتذكرة مرور وكذا اللحظات/ المحبطة قبل إغماض/ جفونك على خراب/هنا أوهناك).
فشبكة الدوال المؤلفة لحساسية هذه المقاطع من (التصدير) إلى (الخاتمة) تشتغل على آلية الأسئلة المفتوحة عبر أكثر من وسيلة تعبيرية، فالخطوط السردية المتخيلة وهي تحيل على خطوط سردية سير ذاتية تتألف من مشاهد وصور وحكايات موجزة ومكثفة، تعبر عن فضاء الحيرة والضياع والتيه، وفيض من المشاعر المتناقضة الجوالة التي لايقر لها قرار بفعل غموض التجربة والتباسها ودخولها في منطقة ضيقة وعسيرة على الخلاص.
لكن هذه (النهاية) التي نتحدث عنها، لا تعني أكثر من صرخة ما تطلقها الشاعرة ابتهال بليبل، اتجاه ماترى من جرح المسافات الآيلة للضمور، شاعرة تتكلم بلغة أخرى، شاعرة تتكلم بلغة ثالثة، هذه ابتهال بليبل.. فلنصغِ إلى ما تقول!.