لكن للغة مسعى آخر

ثقافة 2021/04/05
...

  ياسين طه حافظ 
 
أذكر في بدء الثمانينيات صدر ملحق قاموس اوكسفورد. وكان يضم 18.750 كلمة جديدة. وبالتأكيد ظهرت كلمات أخرى بينما هم يعملون على إصدار هذا الملحق. معنى هذا أن حدود اللغة تتسع بلا توقف، فاللغة (تعيش) في حياة عملية وفكرية والتوليد مستمر مادامت حاجات جديدة تريد تسميات أو تريد التعبير عنها. لا يبدو لي أبداً أنها تتوقف ومفردات الحياة وحاجات الناس تتجدد وتزداد. إذن، مع تقدم الإنسان تتقدم وتتجدد اللغة، فتغتني بجديد من المفردات والتعابير. الغنى الجديد قد يكون من اللغة نفسها أو مما تأخذه من لغات العالم ومن المفردات (المادية) المستجدة فيه.
اللغة ليست كوم ألفاظ. هي نظام تواصل لفظي يعمل في سياقات وانظمة وبعض من الانماط Patterns ، كذلك بعض من المفردات، التي تبدو جديدة اليوم، قد تتغير أو تستبدل، أو يعاد تركيبها أو صياغتها غداً.ولذلك أرى أن محاولات تجميد اللغة بـ (قل ولا تقل)، طريفة ولكنها محاولات غير علمية؛ لأن اللغة وسيلة تواصل بين متحدثَيْن. ولا لغة أو لهجة (واللهجة لغة)، غير ذات شأن مادامت تؤدي مهمتها التواصلية بين المتحدثين بها. فلا استهانة بلغة ولا استهانة بلهجة، بل ولا استهانة بنمط تعبيري، مادامت هذه تؤدي مهماتها في تعبير اصحابها عن شؤونهم. حتى معدّو القواميس  The Texicogaphersأنفسهم قد يرتبكون إذا سألتهم عن إمكان وجود لغة تسد دائماً حاجة الجميع. هؤلاء المعدون يوثقون اللغة (العاملة) أو الحيّة، وما سيأتي إلى اللغة سيوثقه آخرون.
طبيعة اللغة نفسها طبيعة مرنة قد تكيّف المفردة الجديدة للنسق المعتاد أو تنشئ أنساقاً وتعابير. 
نعم لكل لغة انماط تعبيرية ولكن اللغة ليست قامعة لما يُسْتَحدث. هي ليست آمرة متسلطة إلا اذا أردنا نحن ذلك، وإرادتنا نحن لن تؤدي إلى شيء، لأن طبيعة اللغة (المرحِّبة) والمتغيرة، أقوى من الارادات الفردية ذوات الطبيعة العاطفية.
أظننا لو صنفنا "اللغات" في حواسيب الناس اليوم، ضمن الشعب الواحد وضمن مدى وجو اللغة الأم، لعثرنا على العديد من اللغات الفرعية او من الانماط التعبيرية المصطنعة أو الطارئة  على ما عهدنا. كل فئة لها لغتها المتفقة عليها. وليس في هذا خروج عن القانون ولا هو مستنكر. علماء اللغة يعرّفون اللغة بأنها كلام. Language is speech .
أما الحديث عن الامتيازات، عن الاساليب، عن الصياغات، عن تاريخ اللغة وقدمها، فهذه موضوعات أخرى. هذه حقول دراسات مطلوبة في دراسة اللغات. 
يجب القول بأن "الملاحق" المضافة، مثالنا السالف واحدٌ من نماذجها، ليست مما يحتاج له الجميع دائماً. هي لحقول علمية، قد تكون صناعية، تجارية ومما تبتدعه الأجواء المهنية. وقد تكون هذه المفردات والتعابير من اللغة نفسها أو مما حولها من اللغات وتجد لها قبولاً في لغتنا القومية. هي في جميع الاحوال بعض اللغة وهي ما يحتاج له المشاركون في الحوار. هو منطق علوم اللغة!.
السؤال الآن هل نحن بحاجة الى "دليل لغة" ؟ إذا كان هذا السؤال عن لغة اليوم، إذا، نحن بحاجة الى دليل لغة في مستحدثات الفنون، والصناعات، والمختبرات، والأسلحة، والفضاء، والطب، وسواها من مفردات الحياة اليومية الجديدة، وكما نحتاج عادةً لدليل الى لغتنا قبل قرون، الحاجة عموما، ودائماً الى تركيب عام Common Structure والى تركيب Syntax يعتمد ويلامس المعنى العام قدر ما يتطلبه موضوع الكلام. ولن يكون هذا أبدياً، لكن ضمن سياق عمل.  وهنا تصبح المعاجم موسوعات كلمات أكثر مما هي أدلة لغة. 
نحن اليوم في العربية لا نسيطر على مدى لغتنا واستعمالاتها ولا نملك دليلا يدلنا على جديدها أو غرائبها. ما نملكه معاجم وقوانين لما هو ثابت ولا يتجاوز قوائم كلمات ومعانيها. وهذا يعني أن نفعاً ممكناً من مؤلفات معجمية أو، أدلة، جديدة مساعدة لتلك التي ورثناها. وستكون للإلمام بلغة اليوم وكما هي في عملية التعبير على ألسن الناس في الشارع والمكتب والبيت والسوق والمصنع والعيادة. 
الأدلّة من اجل لغة الخطاب اليومي وصيغها التعبيرية المستحدثة او المنحرفة عن القديمة أو المختصرة أو التي ما عادت في أماكنها فتغيرت دلالاتها. 
انشغالنا بأننا يجب ان نقول "بالرغم منه" "لا برغمه"  و "يجيب عن" لا "يجيب على"..، انشغال غير مجدٍّ. هذه أمور لا أرى أي ضرورة لها فهكذا صاروا يستعملونها تجوزاً أو ذوقاً جديداً أو ادراكاً لعدم ضرورة بعض الحروف أو تشابه فعلها الدلالي أو لخفتها ولطفها. ما عاد التصويب ساراً هو لا يرضي المقابل وتراه يقطب أساريره لسماع أحدٍ يصوّب له كلامه.. 
أمامنا سؤال صعب ولكنه سؤال مطلوبةٌ الاجابةُ عنه: هل اللغة التي نقر بصلاحها هي اللغة العامة، أم لغة البيوتات، المجامع المتخصصة، أوساط المثقفين ضمن اجوائهم الثقافية؟.
علميا، اجتماعياً أيضا، اننا لا نستطيع المفاضلة بين لغتين أو لهجتين. كلٌ منهما تؤدي وظيفتها التعبيرية للناطقين بها. العامية لغة الشخص العادي ويرى الفصحى لغة آخرين. 
كلٌّ يتحدث بلغته أو لهجته. وهنا نصل الى اشكالنا الادبي: وماذا عن لغة الادب ولغة الشعر في الأدب؟، أظننا نسعى في الادب "الراقي" لأن نقدم لغة مصفّاة للناس "الراقين" في زماننا لنقول لهم كيف يكون الكلام الجميل والكلام الخاص!.
حسناً هذا مسعى متخصص، فهل لنا في المقابل اعتراض على فلاحين وعوام آخرين يتحدثون بلغة مفرداتها خليط وتعابير أزمنة ومستويات حضارية أو ثقافية متفاوتة ومختلفة؟، ان بعضا من هذا الخليط استطاع النفوذ الى لغتنا التقليدية في هذه الايام ولاقى ويلاقي ترحيباً وله وسَطُ استعمال اوسع ولنسبة اكثر من الناس ولعدد من الساعات اكثر، وان لغتهم هذه تريحهم، بل هم ربما يجهلون أيةً سواها. لا مجال لقلب التربة ولا مجال لانتزاع "لغة" من ناس امتلكوها أو تكونت لهم!.
سؤال مثل هذا يجاب عنه بجدية علمية لا بارتياح مزاجي او بعواطف قومية أو وطنية. 
هذه لغة متداولة تؤدي وظيفتها التعبيرية. والمتحدثون بها يرونها لغتهم التي يتكلمون بها. وسواءٌ انحدرت من لغة أم اكثر فصاحة وأدق قواعد وأنظمة، أم وليدة عصور تخلف وأزمنة تحول، هي لغة ولها جمهورها. 
الاحترام واجب، واجب علمي. 
وأن كان هناك ما يجعلنا نشعر بأسف على مجدٍ أو على ضياع أنظمة لغوية أكثر اتقاناً وأغنى، فعزاؤنا وعذرنا ان العالم يتغير ومفردات العيش وطرائق العيش تتغير وتستجد وان الناس ابتعدوا عن بيئتهم الأولى وما فيها من مفردات وثقافات. فهم ناس الشارع الجديد المزدحم والحقل الجديد بآلياته وعلاقاته التجارية ومنتجاته الصناعية والحافلات. لا ناس الاكاديمية والصالات وقاعات الدرس. ان نقاشا لهذه الظاهرة يجب، نعم يجب، ان يعتمد على علوم اللغة، أو اللسانيات، وعلى النظريات الحديثة منها ليكون لنا جواب صائب يحترمه العلم. 
مع ذلك، وفي كل الاحوال، كما في كل الأزمنة، هناك دائما لغة متميزة للمتعلمين و"الطبقة" الراقية ثقافياً، ولغة قريبة وبعيدة عنها للناس. أما ان نظل نلاحق الناس بتصويب تعابيرهم ونلاحق أغلاطهم، أظنها عملية مضحكة قليلاً.. 
ختاما أقول: الحفاظ على اللغة هو مسعى خير ووطني، لكن للغة مسعى آخر يخالف هذا هي تريد أن تتغير أو تتجدد!.