الرواية بوصفها قدّاساً موسيقياً

ثقافة 2021/04/06
...

 فاضل ثامر
 
هذه رواية صادمة منذ بدايتها، وتتطلب انتباهاً عالياً اثناء العبور فوق سطورها، وتقتضي تحشيداً لثقافة عصرية شاملة. فـ “الضفاف السعيدة» لعدنان يعقوب القره غولي (بيروت 2014)، ليست رواية عادية او يسيرة القراءة لمن يريد أن يسبر عوالمها وحبكتها ودلالاتها. فهي نص كتابي وليست نصاً قرائياً. فثمة عنوان فرعي ملحق بالعنوان الرئيس يبعث على اللبس هو « أو: ما نفستو من سلم د.الصغير».  كما أن صورة الغلاف تحيلنا لرواية «يولسيس» لجيمز جويس، حيث نجد صورة تضم ستيفن ديدالوس ومولي بلوم. 
ترى هل نحن بصدد نص حداثي على غرار رواية جويس. ليس هذا فقط، فالرواية تعوم على بحر من الثقافة والفن والموسيقى. فالبطلة التي تسرد روايتها عبر ضمير المتكلم الإتوبيوغرافي، وتقف وسط مكتبة لبيع الكتب في بغداد، ربما قريباً من ساحة الباب الشرقي، اعتادت ان تبدأ صباحها بالاستماع الى أسطوانة الموسيقار فرانز ليست التي اشتراها لها عمها من معرض جقماقجي.
في الصفحة الأخيرة من الرواية ثمة إشارات اخرى تعمق صلة الموسيقى بالبنية السردية، واضاءة اخرى للعنوان الفرعي، وتأكيد واضح على الطبيعة الميتاسردية للرواية من خلال مشروع كتابة رواية هي بمثابة قداس للحياة، وليس للموت. (ص190) وان اسم الرواية سيكون Manefesto in D minor أو “ الضفاف السعيدة». وتقترح البطلة على رائد أن يقرأ روايتها، وهو يصغي الى قداس جنائزي Requiem:(ص191).
وقبل أن أغادر الصفحة الأخيرة، توقفت عند لعبة سردية جديدة تؤكد الطبيعة الدائرية للرواية  Circularity of the Novel إذ تعلن البطلة أنها ستشرع بكتابة فصول روايتها، وإذا بها تعيد السطور الاولى التي استهلت بها روايتها، والتي تحمل أيضا اسم الرواية الحالية «الضفاف السعيدة»: (ص191)، (ص5).
المكتبة ذاتها ليست عادية، فقد اعادت البطلة تنظيمها، بعد ان تسلمت إدارتها من عمها المتقاعد، على طراز «مكتبة شكسبير» في باريس التي كانت تديرها سلفيا بيتش Sylvia Beach  في عشرينيات القرن الماضي، وهي ناشرة أميركية نشرت رواية «يولسيس» لأول مرة من خلال مكتبتها عام 1922. 
يمهد لنا الروائي الطريق لمتابعة تجربة حياة بطلة الرواية وراويتها المركزية منذ طفولتها، والمشكلات النفسية التي تعرضت لها، وبالتالي قدرتها على تجاوز محنتها واستعدادها لمواجهة تحديات الحياة الكبرى، حيث قررت ان تكون خطوتها الاولى كتابة رواية عن تجربتها المريرة، سنكتشف انها هذه الرواية بالذات، وكأنها تتوسل بالسرد لكي ينقذها من حالة الياس والجنون والعزلة، تماماً كما توسلت قبلها، شهرزاد بالسرد والحكي لكي تتخلص من سيف الجلاد.
تتحرك الرواية، في البداية، وسط إيقاع هادئ نسبياً، يروح يتصاعد تدريجياً الى ان يصل الى ذروة عنيفة، غيرت مجرى الايقاع السردي وذلك منذ اللحظة الاولى لظهور شخص غريب، دخل مكتبة البطلة لكي يشتري كتابا اسمه «الضفاف السعيدة» لمؤلف اسمه جهاد جليل او (ج. ج)، إذ تأخذ منحى بوليسيا في البحث عن هذا الشخص الغريب، الذي سنتعرف الى مشكلته لاحقاً، والى كونه كاتبا ومؤلفا مفترضا لكتاب «الضفاف السعيدة»، إذ سيشكل غيابه ازمة كبيرة للبطلة بسبب تعلقها الغامض بشخصيته. 
وبنية البحث في هذه الرواية تمتلك الكثير من ملامح الرواية البوليسية، فهي لا تكرر الآليات السردية المعروفة في روايات آرثر كونان دويل واجاثا كرستي، بل هي أقرب ما تكون الى عوالم دان براون الخفية ومنها «شفرة دافنشي» و «الرمز المفقود» و»الجحيم» وغيرها.
وتتراكم الازمات النفسية على البطلة ومنها الموت الغامض لوالدتها، بعد موت والدها وفشلها في الحب، بسبب تجاهل ابن عمها عدنان لعواطفها تجاهه، وهجرته خارج العراق، فضلاً عن تعلقها الغامض بـ (ج.ج) مؤلف «الضفاف السعيدة».  
وبذا تتعرض البطلة لحالة عصابية تشبه «الشيزوفرانيا» أو «البارا نويا»، إذ تتعرض لسلسلة كوابيس ليلية تجعلها تستيقظ مرعوبة وهي تصرخ، مسببة الفزع والقلق لأفراد أسرتها.
ويتحرك الايقاع الروائي، على وفق إيقاع يتناظر وايقاع القداس الجنائزي، الذي كانت تستمع إليه دائماً، وتحول لازمة إيقاعية مناظرة للبنية، كما أصبح عنصراً مهيمناً على جو الرواية وصابغاً إياها بمسحة صوفية، جنائزية، حزينة تبعث على الرهبة والخشوع.  
ولذا لم يكن غريباً ان تضارع بطلة الرواية بين إيقاع البنية السردية لـ “الضفاف السعيدة» التي عزمت على الشروع بكتابتها في نهاية الرواية، وبين البنية الايقاعية للقداس الجنائزي.   
 ومما له أهمية، ان البطلة، قررت كسر النسق الجنائزي للقداس الموسيقي بوصفه قداساً للموت، وتحويله إلى قداس للحياة (ص 190). 
ولكي نكتشف طبيعة ازمة البطلة النفسية، لا بد لنا أن نتعرف الى سر تعلقها الغامض بشخصية (ج.ج) مؤلف «الضفاف السعيدة» وتعالقها بشخصية الروائي الأيرلندي جيمس جويس. 
لقد كانت البطلة، متعلقة بجيمس جويس وروايته يولسيس وظلها الممتد الى إلياذة هوميروس. ويخيل لي انها ارادت ان تكتب ما يناظر رحلة عوليس بحثا عن بنيلوب زوجته، وعن مدينته ايثاكا.
ولذا فقد بدت كمن يكتب مرثاته، ومرثاة مدينتها بغداد التي كانت تعاني أكثر من حصار في تسعينيات القرن الماضي، وهي مسحورة بأصداء لازمة القداسات الجنائزية التي اعتادت على الاستماع عليها، مثل اعتيادها على شرب فناجين القهوة أولاً، والسجائر لاحقاً. 
ويكشف ابن عمها عادل، عن تقليدها لتصميم مكتبة شكسبير في باريس في عشرينات القرن الماضي، ومحاكاتها لشخصية مديرة مكتبتها آنذاك سيلفيا بيتش.  
ويبدو أن سر تعلق البطلة بجويس ومن ثم بـ (ج.ج) مؤلف «الضفاف السعيدة» يعود في بعض جوانبه الى تشابه الشخصيتين بشخصية أبيها الفنان والمهندس المعماري، الذي مات ميتة غامضة، وكان يشبه في مظهره شخصية جويس بقامته وقبعته الانيقة.  
وهذا المنحى يكشف عن تحول الرواية في بعض جوانبها لقصة سيكولوجية، من خلال الدمج بين البحث البوليسي وبنية التحليل النفسي لشخصية البطلة، وخاصة خلال تعرضها للانهيار العصبي ورقودها في مستشفى للأمراض النفسية. ونجد صوراً متكررة ومتعددة للبطلة في طفولتها وهي تخاطب أباها بعد وفاته، أو تتخيل رؤيته: (ص 25) 
وفي لحظات معينة تدمج البطلة بين صورة أبيها الغائب وصورة يولسيس الذي يناضل من اجل العودة الى بيته في ايثاكا. ولو شئنا ان نعرج الى ميدان التحليل النفسي، لقلنا ان البطلة تعاني من عقدة (الكترا)، التي تكشف عن تعلق الابنة بأبيها، وهي المقابل لعقدة (اوديب) التي تشير الى تعلق الابن بأمه. اذ يبدو ان البطلة لم تستطع ان تخرج من جلباب أبيها، فتحول غيابه الى كابوس يؤرقها، ويدعوها للثأر من قاتليه المفترضين، ربما مثل الكابوس الذي كان يلاحق هملت ويدعوه للانتقام من 
قتلته. يمكن القول إن «الضفاف السعيدة» رحلة عوليسية على أكثر من مستوى. فهي رحلة الاب، عوليس الذي تتنظر البطلة عودته، وهي أيضاً رحلة الكاتب (ج. ج) العوليسية لايثاكا – مكتبة البطلة – كما أنها وقبل كل شيء هي رحلة عوليسية لمحنة البطلة السيكولوجية واصابتها بلون من فصام الشخصية الذهاني وعودتها النهائية لشاطئ الأمان، وتحررها من كوابيسها من خلال قرارها بكتابة رواية تحمل اسم «الضفاف السعيدة»، وهو العنوان الذي ظل يتردد في فصول الرواية مثل لازمة مرافقة لتكرار موسيقى القداسات الجنائزية على امتداد صفحات  الرواية. وتعوم الرواية على بحر من الرموز الميثولوجية التي سمت بها فنياً، وتتناغم على ايقاعات الموسيقى الكلاسيكية الخالدة، وفي مقدمتها «قداس للموتى» لموزارت وفصول فيفالدي الأربعة.  ومن الجلي أن الرواية ذات نفس أنثوي مهيمن، من خلال رؤية بطلتها وراويتها المركزية، وأنها بعد هذا وذاك، أنموذج متميز لكتابة رواية ميتا سردية، من خلال إعلانها أكثر من مرة عن فكرة الكتابة الروائية بشكل عام، ومشروع البطلة النهائي، كتابة روايتها المقبلة «الضفاف السعيدة» التي ستجمع في بوتقتها كل النسخ الاصلية والمترجمة والمروية شفاهياً لـ “الضفاف السعيدة» سواء من خلال النص الذي كتبه (ج. ج) او النص الألماني المفترض الذي يحمل بعض ملامح أو قصة «الشقيقات» لجيمس جويس.
«الضفاف السعيدة» أظنها روايته الاولى، مكتنزة، ومحتشدة بالرموز والدلالات والثيمات الميثولوجية والإنسانية والنفسية، وهي تكشف عن عمق تجربة مؤلفها وسعة ثقافته، وهو ما يدفعنا الى انتظار ما سيقدمه للمكتبة الروائية العراقية من عطاءات
 متقدمة.