بين الذكاء والتعاطف

آراء 2021/04/06
...

 علي جرادات
 
 
ترسخ لدى الكثير منا أن الإنسان كلما زاد منسوب ذكائه فقد جانب التعاطف وأصبح أكثر قسوة وأقل رحمة، فهل هذا صحيح علمياً؟،
الحقيقة أن أبحاث بيولوجيا الأعصاب تثبت العكس من ذلك، فالأشخاص ذوو المستوى الذكائي المحدود أقل تعاطفاً وشفقة من الأشخاص الأذكياء، فلنوضح ذلك بأمثلة: 
مثلاً كلما كان الإنسان محدود الذكاء كان تعاطفه لا يتجاوز ذاته، وهذه الشخصيات النرجسية، التي ترى نفسها محور الوجود وأن الكون يطوف في محرابها، ولا يمكنها التعاطف بتاتاً مع أي شيء خارجها، وهؤلاء في الأغلب يكون لديهم تاريخ طفولي كارثي، جعلهم يكرهون ذواتهم بعمق، وخوفاً من مواجهة ذواتهم بذلك، يحولون هذا الكره إلى انتفاخ داخلي فارغ، معتقدين أنه حب، هذه الشخصيات بسبب عيشهم المرضي في مستواهم الطفولي عمرياً لا يمكنهم بناء جسور محبة وثقة وتعاطف حتى مع ذاتهم. وهذه شخصيات مريضة جداً لدرجة التشوه
الحاد. 
هناك شخصيات ذكاؤها أعلى قليلاً تستطيع أن تحب، ولكنه حب امتلاكي أناني، لا يمكنه أن يتجاوز الصلات الدموية الأولى، فهم يمكنهم التعاطف فقط مع أسرتهم الضيقة من أبنائهم وأمثالهم، ولكن لا يكترثون بتاتاً لأي حدث موجع حتى لجيرانهم المقربين، لأنهم يعدون الوجود متمحورا حول أسرتهم وحسب.
بعد هؤلاء تأتي الشخصيات ذات التعاطف المشروط، أكان على خلفية مذهبية أو حزبية أو طائفية، فما دمت من أبناء طائفتي أو مذهبي أو حزبي أتعاطف معك، ولكن من هو خارج هذا الشرط لا يعبؤون به بتاتاً، فإذا كنت سنياً أتعاطف معك ولكن لو كنت شيعياً فلتحرق غير مهتم، والعكس صحيح، أو الأرذثوكسي مقابل الكاثوليكي، أو الديمقراطي تجاه الجمهوري وهلم جرا، وهذه الظاهرة الكثير متوقف عندها ونادراً ما يتجاوزها. 
ثم يأتي أناس أعلى قليلاً بتعاطفهم، فلديهم القدرة على التعاطف مع جميع أبناء دينهم، بغض النظر عن الطائفة أو الحزب، ولكنهم لا يستطيعون تجاوزها للتعاطف مع مآسي أصحاب دين آخر، فأنا مسلم أتعاطف مع المسلمين، مسيحي أتعاطف مع المسيحيين، بوذي مع البوذيين، يهودي مع اليهود وهلم جرا، أما باقي البشر فلا اهتم لأمرهم بتاتاً. 
وهناك قسم ذكاؤهم مرتفع نسبياً؛ فهم يتعاطفون مع جميع المظلومين من البشر، ولا يهتمون بخلفيتهم الدينية أو الاثينية، فالإنسان من حيث هو إنسان يستحق مني التعاطف والحب، المهم أن تكون إنساناً وحسب. وهؤلاء ندرة في العالم كله ويتمتعون بذكاء مرن، يجعلهم يتقبلون الخلافات البشرية في إطارها الفكري والسلوكي، وينتقدون الظلم والاستبداد أياً كان شكله.  القسم الأرفع وذوو الذكاء المرتفع لديهم تعاطف مع كل مظاهر الحياة حتى غير البشرية، فهم يتوجعون لحرق الغابات وقتل الحيوانات وتلويث البحار وتدمير الحياة، وتفكيرهم يتسع للتعاطف مع كل أشكال الحياة بشتى أصنافها وأنواعها، فكل الكائنات من حقها أن تعيش بشكل جيد، ولديهم وجع حقيقي لأي تدمير مؤذٍ للحياة بكل أصنافها، وهؤلاء أندر البشر تقريباً ويمتلكون وعياً عالياً وكوكبياً نادرا ما تجده لدى معظم البشر، يكون حصيلة فكرهم غير المؤدلج، وفي الأغلب هم يعشقون الفنون والموسيقى والجمال والحب بكل أشكاله العليا. أعلى هذه الأقسام من وجهة نظري؛ هم أناس تجاوزوا التعاطف في المستوى السابق للوصول إلى حالة من التعاطف مع كل ما هو كوني، فتجدهم يهتمون حتى بالكواكب والنجوم، ولديهم دهشة جمالية حتى مع مظاهر الكون البعيدة، وهؤلاء عقولهم قادرة على هضم فكرة التوسع الهائل للكون والوجود، ويعدون الكوكب الأرضي عبارة عن ذرة بسيطة في بحر كوني هائل، ويمكنهم أن يشعروا بالألم لأن الكون يمكن أن ينتهي بعد مئات مليارات السنين، وهم متعاطفون حتى مع انقراض كائنات عاشت قبل ملايين السنين، وتفكير هؤلاء في الأغلب يكون واسعًا جداً ولديهم تقبل مرتفع جداً لشتى أصناف الاحتمالات الوجودية، واهتماماتهم تكون موسوعية جداً، هؤلاء كبار العباقرة والذين لديهم عقول جبارة وضمائر تعج بالعشق والمحبة لكل ذرة في هذا الوجود الفسيح، وهؤلاء لا يمكنك أن تقابل إلا أناساً معدودين جداً منهم في كل عصر.... من هنا أفهم نظرية أن التعاطف كلما زاد كان دلالة على اتساعك وذكائك لا العكس ....
 
باحث في علم الاجتماع 
من فلسطين