التداول الثقافي لمفردات العنف

ثقافة 2021/04/07
...

  عادل الصويري
 
 بين فورية التأثير على المتلقي، ونسبيته؛ يبقى للوسائل الاتصالية الأثر الفاعل والمهيمن على إدراكات الآخر المتفاعل مع وسائل الإعلام على اختلافها. وإذا كانت هذه الوسائل تمارس التأثير من خلال برامج وأفلام تعزز قيم العنف على حساب التسامح، وتحرض على هيمنة الغرائز المتناقضة، وتجعل الناس أسارى للقلق والأزمات النفسية.
 فإن وسائل اعلامية أخرى تمارس نوعاً من شيوع العنف عبر تسويق المفردات المثيرة الحاملة للدلالات العنفية، وهو ما يحيلنا الى الحديث عن تداولية اللغة الاعلامية، وتفوقها على اللغة الأدبية التي أصبحت تعاني من تراجع يجعلها تراوح مكانياً في أوساط النخبة من الأدباء والمفكرين. 
وغالباً ما نشاهد أطفالنا يتداولون مفردات العنف متأثرين بأفلام الرسوم المتحركة التي تعرض مشاهد تربط العنف بالكوميديا؛ بهدف المزيد من الإثارة والتشويق، الأمر الذي جعل المفردة تتركز بسهولة في ذهنية الطفل؛ لامتزاجها بالصورة البصرية لهذا الفيلم الكارتوني أو ذاك.
ولو أجرينا إحصائية بسيطة على مفردات العنف في لغة الاعلام على مدار اليوم؛ لوجدنا حضوراً كثيفاً لها في الأخبار والبرامج، أو في الندوات التلفزيونية والاذاعية، أو في التقارير والمقالات الصحفية انتهاءً بمواقع التواصل الاجتماعي.
من منا لم تعلق بذهنه مفردات وعبارات مثل: (تفجير حزام ناسف، انتحاري، عبوة ناسفة، سيارة مفخخة، انقلاب عسكري، اقتحام وكر، ثورة مسلحة، .....، الخ)؟.
ولو وجدنا تبريراً لكثافة حضور هذه العبارات؛ كونها جاءت في سياق تغطية الأحداث وهي جزء من الوظيفة الاعلامية؛ فإننا بالمقابل لا نجد تبريراً لانتقال عدوى مفردات العنف إلى أحداث لا علاقة لها بالجوانب الأمنية، فنقرأ أو نسمع أن النادي الرياضي الفلاني (يدك) شباك منافسه خمس مرات، أو نقرأ ونسمع عن (زلزال مدمر) في سوق الأوراق المالية، أو نقرأ ونسمع عن (قنبلة شعرية) فجرها الشاعر الفلاني في المهرجان الفلاني!.
إن شيوع خطاب العنف من خلال التداول اللغوي يعزز إلى درجة كبيرة شيوع خطاب الكراهية، وثقافة التعاطي مع هذا الخطاب، والكراهية مشتعلة أصلاً بعود ثقاب الأحداث السياسية والأمنية، خصوصاً لو وجدت لها مساحة تخترق بها العقائد الدينية، وكأن تحديثاً للخطاب العنفي يحدث عبر تنوعه وانتقاله من ثنائية السياسة/العقيدة، إلى مسميات أكثر حضوراً في اهتمام المجتمعات ومنها الرياضة والاقتصاد والثقافة.
ويعزز انتشارُ هذه المفرداتِ في لغةِ الاعلامِ، مفاهيمَ الاقصاءِ التي قد تُمارس متأثرة بالكثافة الحضورية لهذه المفردات ضد طرف يخالف طرفاً آخر بالرأي، إذ تلعب مفرداتُ العنفِ دورَها في تحويل الخلاف في وجهات النظر والرؤية والآليات، إلى حالة من العداء وعدم الثقة بين الأطراف المتحاورة، فيحل سوء الظن مكان حسن الظن، وتحل الوقاحة محل التهذيب، وكل ذلك طبعاً سيترك آثاره على المجتمعات التي ستتفاعل سلبياً؛ نتيجة الضخ المكثف لهذه المفردات التي صارت جزءاً لا يتجزأ من حياته اليومية.
وإذا كان مجمل الحديث عن تأثير مفردات عنف اللغة الاعلامية، وتمركزها القوي في واقع الناس البسطاء؛ فإن الأخطر هو تفاعل "الطبقات الأعلى" في المجتمع مع هذه المفردات لدرجة استخدامها والتعامل معها، فمثلاً نقرأ لشاعر قصيدة يتغزل فيها بالحياة، ونتفاجأ بمفردة (تفخيخ) قد تسللت للنص من دون دلالة موضوعية، وهذا بحد ذاته يشكل صدمة كبيرة تجعلنا نصاب بالإحباط من إمكانية تغيير المفاهيم الخاطئة عند عوام الناس؛ لأن النخب الثقافية والابداعية متأثرة بالمفاهيم التي نعمل على إزالتها.
والأغرب هو النظرة السائدة والخاطئة لمن يتصدى لخطاب اللا عنف، ويجعله مشروعاً تنويرياً، وكأن القائل باللاعنف شخص حالم وبعيد عن واقعه. يقول المفكر الفرنسي (جان ماري مولر) : "عندما نسمع أحدهم يتحدث عن اللا عنف، غالباً ما تكون ردة فعلنا الأولى مشوبة بالحذر والتشكيك لا بل بالسخرية اللطيفة حيناً والخبيثة في أكثر الأحيان".
نحن هنا أمام نكوص حضاري كبير حينما يكون العنف وتمثلاته الكثيرة والمنوعة أمرا طبيعيا من حيث القبول بمفرداته وكأنها أمر سائد وطبيعي، بينما نواجه الخطابات التنويرية التي تقف بالضد من العنف بثقافة السخرية، وهو ما يجعلنا نفكر مراراً بقضية تقشير المتراكمات المتوارثة التي هيأت الأرضية المناسبة لاستفحال ظواهر العنف، وتداول مفرداتها لغةً شاع تداولُها.