أوليس البغدادي رحلة محفوفة بالمخاطر

ثقافة 2021/04/07
...

 هدية حسين
من الطبيعي جداً أن يكتب روائي عراقي عن تفاصيل ما حدث في العراق من حروب وحصارات وفوضى واختطاف وقتل، وإلى حد ما نتفهم أن يقوم كاتب عربي بالكتابة عما حدث، لكن أن يكتب روائي فرنسي عن تلك الأهوال بكل هذا الزخم من التفاصيل وكأنه يعيش في العراق فهذا يجعلنا نتوقف ونتفحص ما جاء في روايته، وكيف كان على تماس مع الأحداث؟، إنه الكاتب إريك إيمانويل شميت، وروايته التي عنوانها (أوليس البغدادي) وأوليس هو شاب عراقي اسمه سعد، وهو الذي يسرد لنا بنفسه مأساته (ولدت في مكان ما كان عليّ أن أولد فيه، أردت الرحيل عنه وأنا أطلب صفة لاجئ، حينئذ تدحرجت من هوية الى أخرى مهاجراً ومستجدياً وغير قانوني وبلا أوراق ثبوتية وبلا حقوق مدنية وبلا عمل) ص11.
وسعد هذا الذي هاجر بطريقة غير شرعية إبان النظام السابق يخبرنا أيضاً بأنه ولد في اليوم الذي بدأت فيه الشيخوخة على رئيس البلاد، وهنا يسرد المؤلف على لسان سعد تاريخ أسرته، إذ كبر وترعرع بين أبيه وأمه وأربع أخوات سبقنه في المجيء للدنيا، ووسط حياة سياسية يحكمها الخوف واليأس من المستقبل، وكان يضمر كرهاً لرئيس البلاد الذي تنتشر صوره في كل مكان، ويبلغ الأمر بسعد أن يعتقد أن الرئيس من خلال صوره يراقب كل شيء.
كثير مما ورد في هذه الرواية من أحداث سبق أن عشناها، ومنها اختفاء المواطنين وعدم معرفة في ما إذا كانوا على قيد الحياة أو عذبوا حتى الموت أو ذُوّبوا بالأحماض، ومن خلال ما يحكيه لنا سعد سنعرف أن والده يعمل أمين مكتبة، عاشق للغة العربية ويخفي بعض الكتب الممنوعة، وخاله سُجِن وعذب وفقد أذناً وعيناً قبل أن يرمى الى الشارع من غير أن يعرف التهمة الي ألصقت به سوى ما يقال له بأنه خائن، مما وضع الأسرة كلها مشتبهاً بها، وفي ما بعد ترمّلت لسعد أختان بعد أن قتل زوجاهما في حرب العام 1991، وما حدث بعد الحرب من حصار طويل وصعوبة الحياة الى حد أن الكثيرين باعوا ممتلكاتهم من أجل تسيير سفينة حياتهم الموشكة على الغرق، كل ذلك ينفرد به سعد ويحكيه بمرارة ليتشكل لديه وعي بالكراهية، ليس فقط ضد النظام بل ضد أميركا التي تجهر بالحرب، وعلى الرغم من أن سعد لا يريد لأجنبي أن يحتل بلده، لكنه في الوقت نفسه يتمنى زوال النظام بأية طريقة، وهكذا يعيش صراعاً مع نفسه لم يوقفه عن مغادرة البلد من دون 
رجعة. 
 يبدأ سعد رحلة طويلة ومحفوفة بالمخاطر أوشك خلالها في كثير من الأحيان أن يفقد حياته، ففي بداية الأمرعمل مع تاجر آثار عراقي يهرب الآثار والمخدرات بين بغداد والقاهرة، ثم من هناك، في القاهرة قدم أوراقه الى مفوضية اللاجئين، لا يملك مالاً ولا سكناً ولا يحق له العمل بانتظار أن يأتي قبوله على أمل التوطين في بلد أوروبي، وعاش عيشة صعبة في القاهرة هوّنها عليه بيكار، أو كما يسمي نفسه بوب، وهو شاب أفريقي سبق أن لجأ للمفوضية لعله يحظى بصفة لاجئ، وبعد انتظار طويل تمت مقابلة سعد، وخرج منها بأمل ضعيف، لذلك يقرر الهرب من القاهرة 
مع بوب.
المركب الذي قاده أحد المهربين كاد يغرق أكثر من مرة لأنه يحمل أضعاف حمولته، واضطر لتغيير وجهته مرات ومرات لينجو من خفر السواحل، ولكن هذه المرة لم يكن الأمر سهلا أمام المراقبة، فتم القبض عليهم في مالطا، وأودعوا معتقلاً ريثما يتحققون من هويتهم ويعيدونهم الى بلدانهم، وفي المعسكر يعيشون حياة ذليلة فيقرر الجميع الهرب بعد أن فقأ سعد عين المحقق المسؤول عن المعسكر، ويهربون جميعاً على مركب، يتجهون به الى صقلية.
وقبل الوصول إلى اليابسة يغرق المركب ويموت أغلب الركاب ومنهم بوب أيضاً، ويفقد سعد وعيه بعد أن يصل الى الشاطئ، وستبدأ حكاية أخرى تجعل سعد يهرب ثانية مع أحد اللاجئين، رحلة تتأرجح بين الحياة والموت وبين ذكريات بلده التي تضغط عليه، لكنه لا يفكر بالعودة حتى بعد أن سقط النظام ويستمر في ترحاله من بلد الى بلد، بين الخوف والجوع والمطاردات، حتى أنه اضطر للسرقة لكي لا يموت جوعاً، وكاد يبيع نفسه للنساء العجائز مقابل المال واكتفى أن يسليهن بجلسات لا تحوله الى 
جيغولو.
يمكن القول إن (أوليس البغدادي) رواية بدأت واقعية لكن ظهور شخصية الأب الميت وجر القارئ الى الفانتازيا غير مناسب لهكذا رواية، إذ تظهر شخصية الأب الذي سبق أن قتله الأميركان وتأخذ شكلا واقعياً وليس حلمياً، يلاحق سعد أينما حل ليناقشه ويسدي إليه النصائح والوصايا له في محنته، وهناك الكثير من التفاصيل التي تستحق التوقف عندها سنتركها للقارئ لضيق 
المساحة.