قراءة في سرديات لؤي حمزة عباس

ثقافة 2021/04/11
...

 حسين العبدالله
 
"احترق عالياً، احترق أعلى، أعلى على الدوام حتى تكون متيقناً من توفير الضوء"¹
يُقدم لنا الروائي "لؤي حمزة عَباس" ضوءاً خاصّاً  به وحده، وهو يضيء أكثر الأماكن عدماً،  أكثرها  نسياناً، وأقلها حضوراً في أولويّاتنا، فمن ذا الذي  يفكرُ في الكتابَة  عن المراحيض، ومن ذا الذي يُفكر في  الكتابة عن  الجرذان وعلاقتها بالتفاصيل، بالحياة، الجرذان التي تقبع في الجحور والسرادق، الجرذان التي تُشارك الجنود في مضاجعهم، وهم في الجبهات، وهم في المنازل، حيث لا شيء يوقده الصمت سوى كوابيس مليئة بالجرذان، ولعلَّ هذا العمل الفريد بحقائقه وتفاصيله، وأحداثه التي تَعبث بالزمن، عبر مقطاع متفاوتة الحجم تنتجها الذاكرة عبر المتخيل السردي، تُتيحُ لنا هذه الذاكرة معرفة الجرذان وعلاقتها بالحياة منذ أول الخليقة حتى يوم القيامة، وهي لا تقتصر على هذا الكائن العجيب الذي ينمو في الأنابيب ويعيش في الجحور بل هي حقيقة متعددة الأشكال، فكم من النّاس من يخبئ جرذاً في سريرتهِ، جرذاً بذيل طويلٍ وربما مقطوع أيضاً، فدلالة الذيل المقطوع وحدها، تكفي  لتعبر عن  أُناس قطعت ذيولهم  ومازالوا في أوج انتمائهم بذيول مستعارة، ربما مصنوعة من البلاتين هذه
المرّة! 
قد يقودنا العمل الأدبي إلىالبحث عن ما هِيّته، فمن الطبيعي أن نسأل، لِمَ الجرذ في هذه الرواية عنصراً فاعلاً؟!
إنَّ عالم "لؤي حمزة عباس" لهُ فضاءاتٌ خاصة بهِ وحده، فهو يقرأ العالم عِبرَ حقائقه الأكثر رتابة، (المراحيض، الجرذان وتفاصيل أخرى..) أما عن الجرذان التي تُشاركنا هذا العالم، فلها أبعادها في هذه الرواية، فالإنسان أيضاً، يمكنُ له أن يكون جرذاً، وأن يعتاش على القاذورات وفي أشد الأماكن قذارة وقرف، ويمكن أن يكون له ذيل، ذيلٌ طويل من "أقصى العمود الفقري حتى منبت الخصيتين"، وأن لهذه الذيول أبعادها التاريخية والأيديولوجية التي صنعتها، فنحن كائنات بلا ذيول، لكن ربما في لحظة ما نتخذ لأنفسنا ذيولاً مشعرة، بحثاً عن 
الجنّة.
إنّ عُمق الدلالة في البناء السردي التخيّلي، تتيحُ للقارئ أن يتلذذ بلغة مكثفة، أقرب إلى لغة الشعر، فالروائي يفتح آفاق التأويل، عبر هذا التكثيف شديد الغرابة، التكثيف الذي تسيرُ خَلفه أنساقه، كما تسيرُ الجرذان خَلف صَديقنا البطل.  
- الجرذان تقرأ التقارير أيضاً ويمكن لها أن تقص الآذان والانوف.!
يعيدنا المشهد العاشر إلى ثقافة العقاب عبر التقرير، لكن ببنية فنتازيّة نوعاً ما: "يفتل القصاصة مثل قصبة العصير الرفيعة، ثم يرميها في الفتحة المعتمة، واثقا من استجابة الجرذان ووقوع العقاب الذي يفكر فيه... وفور أن يغمض عينيه يرى الجرذان تفتح اللفافة بأفواهها المدببة وأيديها القصيرة خفيفة الحركة، ثم تقرأ الاسم بعيون لاصفة ثم تحرك رؤوسها... "
هذا المشهد الذي يعكس ممارسة بعثية بطريقة الرمز الموحي، تلك الممارسة التقريرية، كتابة التقارير وطريقة التفاعل معها وثقافة العقاب، كما يؤكد ذلك المشهد (16) من الرواية، إذن فالجرذان هي معادل حقيقي رمزي لكل القيم التي يحاول الراوي تمريرها عبر السرد العجائبي، 
و(الفنتازيا). 
وخصوصية الجرذ تتخطى حدود المعقول تماماً، ليأخذنا إلى منطقة حساسة جِدّاً لا يبوح بها الراوي بشكل مباشر، وهذا ما أعتاد عليه المتلقي لأدب (لؤي حمزة عباس) عبر المضمر الثقافي القابع خلف النص، خلف الشخصيات، فالحياة هذه عبر أزمنتها وتاريخها مليئة بالجرذان، مليئة بالذيول المشعرة، التي اعتادت على فوهات أسفل البيوت وفي أكثر الأماكن رتابة.. فالحقيقة التي تُقدمها لنا هذه 
الرواية. 
هي علاقة الجرذ بالتاريخ، علاقة  الذيول المشعرة بالسعي  خلف  مُهيمنات  صنعتها لنفسها  عبر الزمن وتفاوت الحقب، الإنسان 
الجرذ منذ آدم  حتى اللحظة، الذي يتلذذ بقرض الآذن وعض الأصابع، وهو يعيشُ في أماكن لا تصلح للعيش، ذلك الذي يرفض التخلي عن معتقدات راسخة، في أعماقه  في ظلّ كل ما يعانيه من قسوة وألم، 
الإنسان الذي يسير إلى رائحة المياه الآسنة ركضاً على قدميه وبعمى فظيع،  لذا وفي لحظة صادمة يخرج حجر بمهارة وخفة من يد صديقنا البطل، ليلقي بالجرذ أرضاً، 
هذه الصورة التي  تقول: على كل واحد 
مِنّا أن يُلقى بجرذه أرضاً، كي يعيش بلا
ذيل.
 
 
¹. غاستون باشلار:شعرية لهب الشمعة،  دار الكا، ص 22
 
². لؤي حمزة عباس: حقائق الحياة الصغيرة، المتوسط، ص19