ايران تملأ فراغ الانسحاب الأميركي من سوريا

بانوراما 2019/02/09
...

 
كولن كلارك وأريانا تاماتابي ترجمة: انيس الصفار                                             
 
يمثل قرار الرئيس ترامب بسحب 2000 جندي أميركي المتبقين في سوريا انقلاباً في السياسة الاميركية، مثيراً قلق خبراء الامن القومي الاميركي من ان يمنى الكرد، الذين خدموا الولايات المتحدة كحلفاء، بالخسائر بينما تحصد سوريا وروسيا وتركيا المكاسب. 
بيد ان مستشار الامن القومي جون بولتن سرعان ما عكس الاتجاه مرة اخرى كما يبدو حين اعلن ان القوات الاميركية ستبقى في سوريا الى ان تهزم “داعش” بانتظار أن يعطي الاتراك ضمانات بعدم ضرب الكرد.
لكن اللاعب الذي قد يكون جنى الفائدة الاكبر من تأرجح الادارة الاميركية ما بين الاقدام والاحجام بشأن سوريا هي إيران. فالانسحاب الاميركي سوف يفسح المجال العملياتي لها لتوسيع شبكتها المتنامية من القوى الحليفة لها بما يسهل تعبئتهم وتحريكهم الى اي مكان. لقد بعث الاعلان الاخير رسالة الى طهران بأن واشنطن لن تقف بعد الان حجر عثرة بوجهها، بل ان الشرط المسبق الذي اشترطته الادارة الاميركية لانسحابها، بحسب بولتن، يخص الكرد و”داعش”، ولم يتطرق الى تواجد او توسع القوى الشيعية التي تدربها وتجهزها ايران.
 
في المنطقة الرمادية
في الايام الاولى لقيام الجمهورية الاسلامية الايرانية، كان زعماؤها الدينيون يكثرون الحديث عن تصدير ثورتهم الى خارج الحدود. ورغم ان نشر الفكر الثوري لم يعد من بين الاهداف الاساسية لإيران لكن الجمهورية الاسلامية أمضت عقوداً من الزمن وهي تنمي اواصر العلاقة مع جماعات دينية في بلدان اخرى. وهذه العلاقات اوجدت وشائج لإيران مع شرائح اجتماعية في افغانستان والعراق ولبنان وباكستان وسوريا واليمن وأماكن اخرى.
ابتدأت إيران رعايتها لتلك الحركات بحزب الله اللبناني، وقد جنت فوائد عظيمة من شن حروب بالنيابة وتقوية ساعد أولئك الذين يقاتلون كطرف ثالث، كما في مواجهة اسرائيل. فالعمل مع وكلاء غير حكوميين مكن طهران من ردع اعدائها ومد عمقها الستراتيجي وتعويض النقص الذي تعانيه في قدراتها العسكرية التقليدية عبر بسط نفوذها الى خارج حدود امكانياتها. الأهم من هذا ان تلك الجماعات ساعدت إيران على الدخول الى ما يطلق عليه “المناطق الرمادية”، ما بين السلم والحرب، ومنحتها قدراً من مصداقية الانكار، كما خفضت عليها اعباء التدخل الى ادنى الحدود.
وعندما نشبت الحرب الأهلية السورية في العام 2011 قررت ايران الوقوف الى جانب الدولة السورية لأنها حليفتها وسعت لتثبيتها في موقعها، لكن الانقسامات الداخلية في دمشق وطهران منعت التواجد المكثف المعلن للإيرانيين في سوريا. ومن جهته سعى الرئيس الاسد  الى ابراز القوة الدفاعية لبلده ولم يتحدث علناً عن الحاجة لمساعدة اجنبية. لذلك، وبدلاً من التدخل المباشر، عمدت طهران الى تنظيم قوات شيعية غير ايرانية للمشاركة في القتال ومساعدة الحكومة
السورية.
وكانت دائبة منذ أمد على انشاء ورعاية مثل هذه القوات في لبنان وافغانستان وباكستان غيرها من الدول، لكن استقدام الشيعة من مناطق جنوب آسيا كان تطوراً جديداً. هؤلاء المقاتلون الاجانب كان يجري تصنيفهم الى تنظيمات فرعية ضمن الشبكة الاوسع، ولكنهم بقوا محتفظين رغم ذلك بتسميات دالة عليهم، ففرقة “فاطميون” مؤلفة من الافغان فيما يتألف لواء “زينبيون” من الباكستانيين، وبلغ حجم تلك القوات عدة آلاف. 
ولم يعد وجود شبكة المقاتلين الاجانب تلك شيئاً مثيراً لانتباه الاعلام، بيد ان انسحاب الولايات المتحدة سيضفي على الموقف منعطفاً جديداً. فمع الغياب الاميركي عن سوريا ستنتعش هذه الشبكة وتتوسع مستغلة فراغ القوة باسطة معها نفوذ طهران الى شتى انحاء المنطقة. لذلك من المرجح أن يؤدي اي خفض جدي في حجم القوة العسكرية الاميركية (حيث يتوقع ان تبقي واشنطن عدة مئات من عناصر قواتها الخاصة) الى تحفيز اسرائيل على اتخاذ مزيد من الاجراءات داخل سوريا، لأن الدولة العبرية لن يعود بوسعها الاعتماد على القدرات الاميركية لحماية نفسها من استهداف ايراني. وهذا بدوره قد يحفز الاخيرة لاستخدام المقاتلين كقوة خارجية ضاربة.
 
استقرار افغانستان
لا يقتصر اعتماد ايران على الجانب الديني وحده لتجنيد المقاتلين واستقدامهم الى سوريا، بل تذكر التقارير انها تعد ايضاً بمنح المقاتلين العائدين وعوائلهم حق الاقامة لديها مع رواتب وتغطية نفقات الرعاية الصحية والتعليم. واليوم، اذ تخفت اصوات الحرب في سوريا، تتطلع ايران لتكرار نجاحها مع مسارح عملياتها في مناطق اخرى، وهي قادرة على تقليص النفقات باستخدام قوات سبق تدريبها وتجهيزها، وهي قوات محنكة صقلتها معارك سوريا ورفعت مستوى فعاليتها. ولا تتوفر بيانات وارقام دقيقة كافية بخصوص النفقات التي تتحملها طهران لدعم تلك القوات، ولكن رعاية القوات الاجنبية (حتى بافتراض اعلى التقديرات) قد تبقى انجع وارخص الوسائل لتحقيق اجندتها الاقليمية في وقت يضطر البلد فيه لشد الحزام لتجاوز العقوبات الاقتصادية. لكن الباحث الايراني أفشون أوستوفار يقول: “ما تنفقه ايران للجانب الدفاعي قليل، وربما اقل بكثير من اقرب نظرائها وخصومها في المنطقة حتى لو ادرجنا ضمن ذلك دعمها لشبكات سوريا ولبنان واليمن وغيرها.”
بانسحاب الاميركيين من سوريا، وبغياب اية سياسة متماسكة لدى الاميركيين، ينتظر من ايران ان تستمر في اعداد القوى المسلحة الاجنبية وتعيد توجيهها الى اية نقطة اخرى في المنطقة. بعض مقاتلي فرقة “فاطميون” اعيد توجيههم منذ الآن صوب افغانستان (أحد مسارح النفوذ الايراني) حيث تسهم، الى جانب روسيا، بتقديم الدعم وسد الطريق على فرع تنظيم “داعش” الذي ينشط هناك. وهدفها من هذا الجهد هو ان تثبت للافغان رغبتها بأن تكون قوة استقرار فيما تدرس الولايات المتحدة خفض تعداد جنودها هناك الى النصف. 
لا شك ان الغاية من وراء قرار الرئيس ترامب بسحب القوات الاميركية من سوريا هي تخليصها من مستنقع الشرق الاوسط واعطاء واشنطن الحرية والمرونة لتركيز إمكانياتها لصراع القوى العظمى، كالصين وروسيا، مع إن إيران احتمال وارد هي الاخرى. لكن الادارة الاميركية، بإحالتها مهمة قتال داعش الى تركيا، وتنازلها عملياً عن سوريا لنظام الرئيس الاسد وداعميه الاقوياء (موسكو وطهران)، تكون قد اعطت اشارة بتخليها عن ساحة المنافسة في مناطق ساخنة مهمة جيوسياسياً.
رسالة مثل هذه من شأنها ان تجرئ دولاً قوية اخرى، من بينها إيران، لتوسيع حضورها. فمن المحتمل ان تتقدم طهران لاستغلال هذا الخرق بأن تواصل بناء شبكاتها وتحريكها في المنطقة. 
ومع الاعتقاد الايراني بأن هذه الستراتيجية تستحق الجهد، وان مكاسبها أكبر من تكاليفها، فإن الشبكة قد تبقى تتوسع حتى تتحول الى تهديد يتسبب في نهاية الامر بمزيد من المتاعب للولايات المتحدة وحلفائها على المدى البعيد.