مدينة على حافّة الفراغ

ثقافة 2021/04/12
...

 د. نازك بدير
 
أن تصل إلى مفترق طرق، تقف، ولا تعرف بمَ تشعر تحديدًا، تنسى مَن أنت، تفقد ذاكرتك، وأكثر من ذلك؛ تبتر ما له علاقة بالحاضر قبل الماضي والمستقبل.
أن تكون في نقطة ما تشبه الفراغ أو العدم، لا ترى شيئًا، ولا تسمع شيئًا، ولا تصل إلى مكان.. تبقى معلّقا هناك في الما بين حيث لا حدود، ولا تقاطع، ولا رؤية، ولا ضباب، مجرّد نقاط مبعثرة في فوضى لا محدودة.
أن تفقد القدرة على الكلام، وتتحوّل إلى كائن ينطق في أعماقه لغة مجهولة..  يحلم بتشكيلها، فتصطدم الحروف بألواح ثلج رُفعِت بين الإنسان والآخر حتّى نَسي الصّوت، وبات يستحضر صورته، يسترجع ذكرى معلّقة منذ زمن بعيد.
هل لا يزال على قيد الحياة؟ أما يحدث هو حلم يقظة تُشلّ فيه القدرة على النّطق مع استمرار الشّعور بالمحيط؟ تنعدم القوّة على التّحرّك مع معرفة ما يدور حولك، تسقط كلّ رغبة في الحياة أمام دوائر الموت. خشى أن تتحرّك من مكانك، وكأنّك مسمار صدئ سيتمدّد سواده إلى ما حوله، فتتكوّر نحو الدّاخل، يتعمّق الجرح، وينزف قيحًا.
أن يطغى صراخك الدّاخليّ على الحقول الكهرومغناطيسيّة المحيطة بك، وأن يعلو بك هذا الصّراخ ليضعك تارة على سياج مكهرب، وتارة أخرى، يرميك في بئر لا قرار لها، فيصدح هذا الصّوت في الطّرف الآخر من تجاويف الدّماغ، ويبلغ الصّدى لجج الرافدين.
في ذلك النّفق، لا شيء سوى رؤوس عمياء تفرّ صوب الوراء، ترسم حكاية موتها في كلّ خطوة. كيف تستحيل الأوردة أفاقًا؟ والنّفق يغدو مشجبًا عليه بقايا يافطات تنبئ بمسيرة اخترقت عزلته ذات مرّة؟
طحالب جافّة تصارع العتمة فوق مراكب الصّيادين. هناك، في آخر النّفق الممتدّ نحو البحر، ظلّ مدينة ينعكس على سكّين يفكّ العقدة الأخيرة قبيل الرحيل. تتناثر النّقاط على حافّة السّهم، يرتدّ معها الزّبد حاملًا قصائد بلا لون، يلقي تعاويذه على محاجر فارغة، ووشْم نصف القمر يتأرجح في عزلته، وصوتٌ بلا قرار يتردّد من النّفق: في هذه المعركة، لا أحدَ يخرج منتصرًا.