سيمون دي بوفوار أنموذجاً بين ثورة ذات المرأة وموت المجتمع

ثقافة 2021/04/13
...

 د.أسماء أديب
منذ ما يقرب من ربع قرن نادت طالبة الفلسفة في جامعة السوربون بالتحرر وكسر القيود ومساواة المرأة مع الرجل في كل شيء وأي شيء،  فما ان نذكر لفظة النسوية حتى تتبادر إلى الاذهان (سيمون دي بوفوار) الكاتبة والمفكرة والمنظرة في علم الاجتماع والناشطة في الحركة النسوية والفيلسوفة، التي قدمت عبر افكارها ودراساتها الفلسفية المساهمة الكبيرة للوجودية، وخاصة الفكر والاخلاق الوجودية، أصغر شخص اجتاز امتحان التعليم الفرنسي وهي في سن الواحد والعشرين وبأعلى تقدير، إذ حصلت على المرتبة الثانية وكانت المرتبة الأولى من نصيب جان بول سارتر، وفي هذه الايام ونحن نقترب من ذكرى وفاتها في 
14 /4 / 1986  ما علينا إلا ان نحيي وقفتها وفكرها لمساندة المرأة والدفاع عن حقوقها المسلوبة.
تعد بوفوار من أوائل النساء اللواتي نادين بالتحرر، وتمكنت من ان تفعل كل ما يفعله الرجال في مجتمع فرنسي -كاثوليكي متدين يرفض تحرر المرأة ومساواتها مع الرجل- إذ كانت تتصرف بطريقتهم وتشاركهم المجالس وتمارس الممنوعات، كانت لديها رغبة جامحة للتغيير والعيش من دون قيد أو شرط، ومن ثم الايمان بوجودها ككائن يختار لا يُملى عليه الاختيار، فهي تؤمن بأن الحرية تجلب معها ألم الاختيار وعبء المسؤولية، لذلك كانت تتألم في أحيان لتزهو في أحايين أخر، وكان لـ(جان بول سارتر) تأثير كبير عليها فهو (العبقري) كما وصفته بوفوار وكل من عرفه، والمتمرد على القيم المجتمعية عبر افكاره الفلسفية الوجودية، التي تبنتها بوفوار معه، كان يشعر بالزهو والاعجاب بذاته فهو يرى الجميع أدنى منه حجةً وعلما، كانت له افكاره وعالمه الخاص الذي لا يهمه أي شيء سوى احساسه بالوجود مكتفيا بذاته عن الجميع يساعدهم ويشجعهم لكنه يقف أمامهم لا خلفهم مرحا محببا منهم، ورغم هذا فهو يعد وقته الأسعد عندما يكون وحيدا بين أوراقه وقلمه، لقد عشق بوفوار وعشقته حد التماهي على حد قولها، ولكن صراعا ذاتيا ألم بها نتيجة هذا الحب إذ عرّفته قائلة: "هو الشعور بالسيطرة على الذات معارضة الذات والاخر"، ووصفت المرأة على انها اخرى كانت ترى انها مغرمة بالصعب حد اللعنة، يتصدر احساسها بهجة الحرية والتحرر من قيود الدور التقليدي للمرأة، إذ ترى نفسها خارج دور المرأة التقليدية كزوجة وأم وهي قانعة للتصالح مع هذا المستقبل الخالي منها بل هي متصالحة تماما معه كما كانت تقول وتُظهر ذلك في أفعالها على الرغم من حنينها أحيانا إلى وقفة الكنيسة وأحلامها في أحيان ثانية بالزواج من ابن عمتها كما ذكرت في مذكراتها – فهل نجد هنا صراعا للذات أم عدم مصداقية ورِضا للاختيار-؟!.  
وبالرغم من ذلك كانت لها بصمة واضحة وتأثير منفرد النظير في اثبات وجودها وطرح افكارها التي نادت بها منها: أن المرء لا يولد امرأة بل يصبح كذلك، فهنا حددت افتراضا مسبقا للوجود وهو ما سبقها إليه سارتر بأن الوجود يسبق الجوهر، فالكائنات تصبح على ماهي عليه على أساس عدم وجود ضرورة مسبقة وطبيعية، إذ ان الجنس هو مبنى اجتماعي نتيجة التنشئة الاجتماعية في مرحلة الطفولة ومن ثم عنصر الاختيار، ولا يتم الاختيار أبدا بل يتم صنعه. 
تحدد بوفوار موقفا نسويا راديكاليا بحجة أنه يجب على النساء أن يتحدن في صراع سياسي للتغلب على اضطهادهن إذ يمثلن الطبقة الأدنى منزلة اجتماعيا للاعتماد النفسي على الرجل ذلك عبر كتابها (The second sex) الجنس الآخر أو الثاني والذي قدمت من خلاله أنموذجا للقمع وعرض فكرة المسؤولية الواجبة على المرأة في مقاومة إغراء التبعية واختيار الحرية والتعالي عليها وقد حددت خاصيتين للوعي بالوجود والعدم (الاختيار والزمانية)، وتكمن أهمية الاختيار في المشاركة بين الحاضر والمستقبل لتحديد الذات، ويمثل هذا الكتاب نصا تأسيسيا للنسوية المعاصرة. فقد كانت تردد (عش من دون وقت مستقطع) فالانسان محكوم بأن يكون حرا كما يذكر سارتر حرية الانسان في قدرته على تجربة كل شيء ورغبته في كل شيء فـ(من الطبيعي ألّا ينجح أحد في كل شيء، ولكن ينبغي عليه أن يريد كل شيء)، ومن ثم إيمانهما (سارتر وبوفوار) الشديد لقول الحقيقة، فبالنسبة اليهما كانت فكرة التكتم هي أثر من آثار نفاق البرجوازية لمَ الاحتفاظ بالسر؟، ولكن صدمة الجمهور عند نشر مذكراتهما فقد اتضح ان هذين المدافعين عن قول الصدق كانا يكذبان. 
لقد آمنت بوفوار بالحرية والمساواة المطلقة مع الرجل؛ ولكن هل المساواة تحتم عليها ان ترتقي وتتعالى حتى على رغباتها؟!، كان للافكار الوجودية أثر آخر جعلها قاب قوسين من الوجود وعدمه، فقد عانت الكثير في مجتمعها إذ نبذها أغلب من عرفها (أسرتها، أقاربها، والدا زازا صديقتها المحببة إلى قلبها، أصدقاء سارتر، زوج والدته الذي منعها من دخول البيت ولم يُظهر سارتر أيّ رد فعل تجاهه)، كانت نظرتهم لها (مومس) لا أكثر لقد تساقطت على جانبي طريقها أمور عدة كانت تحلم بها في ضجيج صمتها.  
وفي الختام أبرزت بوفوار شجاعتها المتناهية في مواجهة العديد من الصعاب وأثبتت وجودها وافكارها في المجتمع الفرنسي والعالم أجمع ونشرت رواياتها وكتبها التي تُرجمت إلى لغات عدة وكان لها التأثير الكبير في طلابها، وبهذا فهي تمثل خطوةً ثابتةً وراسخةً في الحرية والمساواة والحلم النسوي العظيم وما نروم لتحقيقه، ولكن ليس كل ما يفعله بعض الرجال يمكننا اتباعه لتحقق مبدأ المساواة، إذ ليس شرطا ان ترتاد المرأة خمارةً لتثبت انها متساوية مع الرجل؛ لأن ليس كل الرجال يرتادون الخمارة، وليس شرطا ان تمارس المرأة البغي كي تثبت انها على قدر كبير من المساواة والحرية، فالنسوية احترام للذات قبل كل شيء وتحقيقها واثباتها في المجتمع الذكوري.. 
فالحرية أن أعمل ما اريد لتحقيق ذاتي وكياني كإنسان مستقل ان أحقق طموحي ورغباتي، أن أثبت أنني كائن يستحق الحياة، أن أفكر أن أنجح أن اتساوى في الحقوق والواجبات ولا أجعل رجلا سيدا عليّ بل نظير لي، ألّا أطارد دخان العالم بل أن ارتقي بالعلم عنه، ألا أعصر فرحي في كأس غيري، ألّا انتظر أحدا يمطر في صحراء روحي لأزهر، هنا فقط أحقق مساواتي عندما أحقق ذاتي وأعرف ما أريد ومتى أريد.