المدينة والحلم

ثقافة 2021/04/14
...

لؤي حمزة عباس
ثمة خيط شفيف يجع بين كتابة اليوميات والمذكرات والسير الذاتية منها والموضوعية، إنه خيط الرثاء الذي يكاد لا يُرى، رثاء الزمان الذي مرّ ولا سبيل لاستعادته، ورثاء المكان وقد تغير وما من طريقة لاستعادة صورته الأولى، وفي رثاء الزمان والمكان نرثي صورتنا التي لاتزال الذاكرة تقبض عليها بأصابع شبحية. اليوميات والمذكرات والسير تسعى إلى القبض على ما لا يمكن امساكه، واسترجاع ما لا تسترجعه سوى الكلمات، وذلك بعض من عبقرية الكلمات وجلالها. بهذا المعنى يشكّل كتاب (شجرة البمبر، منشورات الحكمة 2017) لفاتن الصراف، مساحة لاستعادة تجربة جيل كُتب على أبنائه، نساءً ورجالاً، أن يحملوا، على طريقتهم، عبء التجربة العراقية منذ تفتح وعيهم أوائل ثمانينيات القرن العشرين.
تصغرني فاتن الصراف، ابنة المعقل، بعام واحد، ذلك يعني أننا شريكا تجربة زمانية ـ مكانية واحدة، وذلك كافٍ ليشكل كتابها فرصة لمراجعة ما تقدّم من حياتي. تقول فاتن "كنا نعشق مدرستنا الثانوية، إعدادية المعقل للبنات، القريبة من الميناء من جهة وثانوية المعقل للبنين، من جهة أخرى"، وفي جملتها أراني في الجهة الأخرى، أنظر من أحد شبابيك ثانوية البنين. ما عشته حقاً، وما حلمت به وجدته في كتابها بدءاً بالعنوان وما ينطوي عليه من دلالات وجماليات، فبالنسبة لمن عاش في المعقل، لا تشبه شجرة (البمبر) سواها من الأشجار، إنها قلب المدينة وروحها، ملمس أوراقها الإسفنجي ملمس المدينة، وطعم ثمرتها الصمغية طعمها، وليس سوى رائحتها الزكية في ساعات الفجر الصيفي إشارة لفرادة المعقل، المدينة والحلم، المدينة التي ولدت من حلم كولونيالي. في استعادة صورة المدينة تتداخل أطياف فتزيد من سحر المكان في نفوس أبنائه. مع أوائل الثمانينيات تخطو فاتن، ابنة الثامنة عشرة، على طريق حلمها لدراسة الهندسة المعمارية في بغداد، فيبدأ الكتاب فصلاً جديداً من فصول الرحلة. إشارات العمارة وجمالياتها تنقل الكتاب لمنطقة أخرى، إنها رحلة من المكان الحلم المديني المتحقق إلى مكان منشود، رحلة تتضمن الكثير من وقفات المراجعة للذات والمجتمع، الوعي وهو يتفتح يضيء العالم.
ليست التجارب سعيدة جميعها، لاسيما إذا كانت الحرب فصلا طويلا من فصول الحياة، شجرة البمبر تصيبها قذيفة، فتحتفظ الذاكرة طويلا بصورة الشجرة الجريحة، كناية عن قسوة تواريخنا التي طالما احتفت باللبوة والشجرة القتيلتين، منذ فجر الحضارة على هذه الأرض حتى فجر الحداثة الفنية فيها. لكن تجربة الإنسان لا تقف عند حد، وذلك أفضل ما يمكن أن تقدمه كتب اليوميات من دروس، فمياه التجارب تبحث أبداً عن مجارٍ جديدة، وقد وجدت الكاتبة المجرى واسعا في الجامعة التي شكلت بثراء حياتها منفذاً للخلاص من واقع مثقل، المعرفة تجدد المكان، وهو ما حصل مع الأماكن المألوفة أيضاً، ثمة بغداد جديدة تراها فاتن بخيالاتها المعمارية، وثمة معقل أخرى تبثق من خطوط المعماريين الإنكليز، المعرفة تجدد الزمان، تهبنا نوراً لرؤية العالم.
بتصوري إن واحداً من أهم دروس (شجرة البمبر)، يكمن في ما يمكن تسميته بـ(عبقرية العمل)، تلك العبقرية التي يكون بمقدورها إعادة بناء الإنسان والجهاد المستمر لإنتاج معنى لوجوده. ومثلما تجسدت عبقرية العمل تجسدت، بالمقابل، عبثية السلطة وهي تأخذ الحياة العراقية لآفاق مغلقة انحسرت معها سبل الحياة.
تهمس فاتن الصراف في أذن قارئها بلغة بسيطة وهي تدعوه للإنصات إلى حكمة حياتها، "حين نفكر بالعراقيل التي قد نتعرض لها أثناء مسيرتنا، لن نستطيع أن نمضي قدماً، علينا أن ننظر لأي أمر جيد حتى لو كان بسيطاً، ونبدأ من تلك النقطة".