ذاكرة رمضان

ثقافة 2021/04/14
...

 البصرة: صفاء ذياب
كيف يمكن لنا أن نعيد لذاكرتنا الصور التي بدأت تتلاشى عن شهر رمضان؟، تساؤل طالما قدح في مخيلتنا ونحن نعيش تغيرات بدأت تأكل من جرف حياتنا شيئاً فشيئاً، هذا الجرف الذي انحرف من شخصية القصخون الذي كان يروي لنا حكاياتنا في المقاهي الشعبية، ليضمحل مع مرور الزمن، وظهور الراديو، ومن ثمَّ التلفزيون، حتى انتشار الفضائيات التي جعلت من القصخون؛ عراقياً، والحكواتي؛ عربياً، صورة نتداولها للتندر عن حياتنا أيام زمان.
هذه الذاكرة كانت سبباً في بناء شخصياتنا التي تغيّرت هي أيضاً، فبدأت حياتنا تتحوّل مثل تحوّل كل شيء في هذا العالم الجديد، فمن قراءة رواية (الجريمة والعقاب) لديستويفسكي إلى قراءة منشورات من سطر واحد على الفيسبوك أو التلغرام، ومن الجلوس على مائدة إفطار عامرة، فيها أكلاتنا الشعبية التي ورثناها أباً عن جد، إلى سندويش نأكله ونحن نتمشى في شوارع مزدحمة، وهكذا لم يعد لدينا وقت لا للحياة على طبيعتها، ولا حتى للاستذكار.
 
أيام زمان
يستذكر الكاتب محمّد رجب السامرائي رمضان في كتاب أصدره بعنوان (رمضان ذاكرة الزمان والمكان)، قائلاً إن اسم رمضان والصوم حظي بالعديد من الاهتمامات التي سطرها المُؤلفون العرب في مؤلفاتهم التي تركوها خلال العصور الإسلامية، لاسيما في كتب التاريخ والتراجم وفي دواوين الشعراء، وفي معاجم اللغويين والكُتّاب وأصحاب البلاغة والبيان. وهنالك اختلاف في اسم رمضان عند علماء اللغة السمحة. فيعني الفعل رَمَضَ: الحجارة، والرَمْضَاء هي: الأرض الشديدة الحرارة من وهج الشمس. وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: "صلاة الأوّابين إذا رَمَضَتْ الفصال"، أي إذا احرقت الرمضاء لِخِفَافِها فَبُورِكت من شدة الحرِّ. وتكون صلاة الأوّابين في وقت الضحى. وقد شاءت المصادفات أن كان الوقت حاراً عندما أرادت العرب تسمية الشهور فسمّي الشهر ذاك بشهر رمضان. ويقال رَمَضَت النصل، إذا دفعته بين حجرين لِيَرُّقَ، وسميَّ رمضان لأن العرب كانوا يَرْمِضُوْنَ فيه أسلحتهم استعداداً للقتال في شهر شوال الذي يسبق الأشهر الحرم. وقد أطلق رَمَضَانُ على شهر الصيام لأنّه يَرْمِضُ الذنوب أي يحرقها، أما عند الخليل بن أحمد الفراهيدي فإنه: مشتق من الرمضاء وهو: مَطرٌ يأتي قبل فصل الخريف.
أما رمضان في العربيّة فهو اسم يردده المسلمون عند قدوم الشهر المبارك أو عندما تحلّ علينا أيامه المباركة، وحظي شهر رمضان بوافر من الذكر والحديث عند المصنفين العرب، أو ما دبّجه الشعراء حول معانيه ولياليه الشعراء في غرر القصائد، أو ما كتب فيه الأدباء العديد من المقطوعات النثرية البليغة، عبر العصور الأدبية الماضية، ومازال شهر رمضان يحظى بالمكانة والاهتمام نفسيهما على المستويين الرسمي والشعبي.
 
رمضان والشعراء
وبالعودة إلى الشعر العربي القديم، فقد مثّل هذا الشهر موضوعاً مهماً لعدد لا يحصى من الشعراء، ابتداءً من فجر الإسلام، وحتى يومنا هذا، فيقول كعب بن مالك: (بنفسي، وأهلي والذين أحبهم/ لصومي صوم الناسكين ذوي البِرِّ/ فإن صمته صوم الوصال فإنني/ قمين بأن ألقى رضاك إلى الحشرِ/ وما كبت الأعداء إلا نكوصهم/ عن الخير ما بين المذلة والعُسرِ/ ولو شاء ربي كان صومي كله/ وصالاً فلم يصبح من العام في شهرِ).
وفي العصر العباسي، فقد أسهم الكثير من الشعراء بتسجيل مشاعرهم وعكس شعرهم عادات وتقاليد ذلك العصر من ذلك الفانوس المستخدم في هذا الشهر كقول أحدهم: (ونجم من الفانوس يشرق ضوؤه/ ولكنه دون الكواكب لا يسري/ ولمْ أرَ نجماً قط قبل طلوعه/ إذا غاب ينهي الصائمين عن الفطر).
وكتب الصاحب بن عباد عن هذا الشهر: (راسلتُ من أهواهُ أطلب زورةً/ فأجابني أو لستَ في رمضان/ فأجبتُه والقلبُ يخفقُ صبوةً/ الصومُ عن بر وعن إحسان/ صُمْ إنْ أردتَ تعففا وتحرجا/ عن أن تكيد الناس بالهجران/ أو لا فزرني والظلام مجلل/ واحسبه يوما مرَّ من شعبان).
في حين عرف الشاعر ابن الرومي بتندّره عن تفاصيل حياته في كل لحظة، ومنها أيامه في هذا الشهر، فيقول: (شهـر الصيـام مبــاركٌ/ ما لم يكـن فـي شهر آب/ خفت العذاب فصمته/ فوقعت في نفس العذاب).
غير أن الشاعر معروف الرصافي يعكس شعره توقاً روحياً لهذا الشهر فكتب: (ولو أني أستطع صيام دهري/ لصمت فكان ديني الصيام/ ولكنني لا أصوم صيام قوم/ تكاثر في فطورهم الطعام).
 
كتّاب وروائيون
ومثلما قدّم الشعراء آراءهم وما يرونه في رمضان شعراً، فقد كانت للكتّان والروائيين آراءً كانت على شكل أقوال، ومن بينهم الأديب علي أحمد باكثير (المتوفى 1969)، الذي قال: (منذ أكثر من 30 سنة كنت كلّما أقبل شهر رمضان المبارك تمثّلت أمام عيني صورة هي من الخيال، لكنّها ثابتة في قلبي ويقيني أكثر من أي حقيقة أخرى ملموسة، هذه الصورة هي صورة موكب يعبر الزمن ويخترق اللانهاية ويدور في الفلك حيث يتم دورته كل عام في مطلع هذا الشهر الكريم).
وقال الكتب محمد حسن الزيات (المتوفى سنة 1993)، إنَّ (من لم يشهد رمضان في حي الحسين أو السيدة زينب وأمثالها من الأحياء الشعبية القديمة لم يشهده في قداسته المهيبة وجلالته الباهرة، ففي تلك الأحياء يشهد تجمعات الناس في الشوارع والمقاهي ورغبتهم في الاستمتاع بكل لحظة من الشهر الكريم).
أما أديب نوبل العربية الوحيدة نجيب محفوظ (المتوفى سنة 2006)، فيرى أنَّ (ليالي رمضان لها ذكريات لا تمحى مهما مر من الزمن، كان رمضان فرصة للصغار من الجنسين للعب في الشارع وهم يحملون الفوانيس ويترنّمون بأناشيد رمضان وهم يرددون (رحت يا شعبان جيت يا رمضان) ولأنّي كنت من أبناء الجمّالية ثم العباسية فقد عشت الأجواء الرمضانية بجميع أشكالها والتي افتقدتها عندما كبرت).
في حين يرى الكاتب العراقي الدكتور أكرم عبد الرزاق المشهداني أننا نتذكر رمضان ونحن صغار، نعيش في محلات كرخ بغداد، وكنّا بعمر الخامسة والسادسة من العمر مع بداية وعينا، وكنا نريد بل ونلح أن نقلّد أهلنا في صيام أيام الشهر الكريم، لنثبت لهم أننا مثلهم قادرون على الصوم.. والأهل ما بين مُشجّع وما بين خائف علينا من أثر الصيام والإرهاق والجوع والعطش، خاصة وأنّنا وَعَينا على رمضان في أشهر الصيف الحارّة كما هو حال رمضان هذا العام، كان بعض الآباء والامهات يقنعون أولادهم الصغار بالصوم لغاية الظهر ويبتدعون له تسمية (صوم الدرجات!!) أو (صوم الغزلان)!! لأنهم لا يريدون أن يحرموهم من (متعة) مشاركة الكبار بالصوم، وبالوقت نفسه يخافون عليهم من آثار جوع وعطش الصوم عليهم.. وحين كبرنا عرفنا أنَّه لا وجود لصوم اسمه (صوم الدرجات!!) أو (صوم الغزلان!!) إلى آخره من التسميات التي يحاول الآباء إقناع أبنائهم وبناتهم بها لتدريبهم على الصيام عاما بعد عام.
ويضيف: بالنسبة لي ولكوني منذ صغري طالباً في مدرسة تربّي طلابها على تعاليم الدين والأخلاق هي مدرسة التربية الاسلامية، فقد بدأت الصيام وأنا في الصف الأول الابتدائي، أي بعمر ست سنوات واستمررت على ذلك طوال عمري. والحقيقة أن تعوّد الصوم مبكّراً ينمّي لدى الطفل ملكة الصبر والتحمّل ويعوّده على أداء العبادات.
 
حياتنا الجديدة
المدينة التي أكلت من تقاليدنا وفولكلورنا، أكلت أيضاً من طقوس رمضان، فلم تعد هناك مجالس ثقافية بالمعنى الحقيقي لهذه المجالس، وتحوّلت كلها لمجالس دينية فقط، كنّا نجتمع، ونحن صغار، لنتبارى بالشعر، والحكايات، والأمثال، ومن ثمَّ كان كل واحد منّا يقدّم جديده إن كان على مستوى الكتابة أو التفكير أو المشاريع التي ربّما سينفذها في هذا الشهر، أما الآن، ومع كل التغيرات التي حولتنا لماكنة عمل من دون أي تفكير بالمشاعر والأسرة وكيفية الحفاظ على روابطنا الأسرية، فقد انتقلت كل هذه الطقوس إلى الذاكرة، مع غصّة كبيرة لفقدانها.