قهوة وقصيدة

ثقافة 2021/04/14
...

  حبيب السامر
 
في أول زيارة إلى بيروت، كنت أحمل في قلبي الكثير من الأماني والتطلعات، أحرص على أن أكون قرب البحر، أتلمس صخرة الروشة، أو ألتقط مجموعة صور على كورنيشها الطويل، أتابع مشاهد الحياة هناك.. هذه الضجة الجميلة وسط شوارعها، اسواقها، مقاهيها، وحتى تمايل الأجساد المسرعة، المنشغلة بالواتساب وإرسال بصمات صوت، المنحنية على موبايلاتها لمتابعة الفيسبوك، أو مشاهدة مقاطع من فديو قد تظهر فجأة. 
كنت شغوفاً بلقاء عدد من الأصدقاء والصديقات هناك.. كان يجمعنا كازينو كاريبو وكوستا وأماكن متفرقة، تبهرنا الأشياء الصغير، تجذبنا أية حركة نحن المقبلين من أقصى الجنوب الى مدينة تضج بكل شيء..
  في زيارتي الأولى، كما في الزيارات التي تكررت مرات عدة بعدها، اعتدنا على شرب الشاي الداكن في مدننا، لكنك تتفاجأ بالشاي الخفيف والاقبال على القهوة بشكل يلفت النظر، على الأقل لنا نحن الذين اعتدنا على الشاي بعد كل وجبة، وما أن نرتاد مقاهينا بــ (كرويتاتها) المفروشة بالحصران الجميلة، أو التي وضعت أرائك وفيرة، جلّ ما نفكر فيه هو الشاي والمشروبات الباردة ونطلب احيانا الحامض.
قبالتي كانت سيدة ممشوقة، تدخن الأركيلة وترتشف القهوة على مهل.. تنفث دخانها في فضاء الشارع القريب منا، فنجان القهوة الصغير، كاد يبرد مع الوقت وهو على طاولة دائرية، تنظر الى موبايلها وتبتسم، وكأن الابتسامة موجهة لي، كنت قبالتها تماما.. أبلل شفتي بلساني خجلا.. وأعود لشرب الشاي الذي برد قبل قلبي..
وقتها تناولت ورقة منديل من العلبة الهرمية أمامي وكتبت: (النساء/ يرتشفن القهوة/ وأنا/ أتلذذ بمرارتها).
 لحظتها، كم تمنيت أن استجمع شجاعتي، وأضع المنديل الورقي الخفيف، الذي دونت فيه هذا النص القصير أمامها على طاولتها، الذي كان ترجمة لحالة جنوبي حالم في فضاء مفتوح..  
كاريبو – المقهى- الذي جمعني بالكثير من أصدقائي وامتدت فيه ساعات الحديث طويلا، عن الشعر، الحياة، النساء، المشاريع المؤجلة، نتبادل اصداراتنا، وكتب بعض الأصدقاء، نتوه في شوارعها، نتوقف قليلا عند مطعم (بربر) في شارع الحمرا، أو قد تأخذنا الحياة الى أزقتها الضيقة والكراسي العالية المصفوفة بعناية فائقة حول طاولة تلامس النادل النازك، نفكر أن نكون عند مكتب تنظيم السفرات الى شمال وجنوب لبنان، أتذكر (فايف ستارز) لنحل ضيوفا على صور وصيدا ونتجه أكثر الى حدود متاخمة الى ما خلفته الحروب من هياكل حديدية، وحطامات دبابات، وطرق نيسمية وسط غابات من أشجار واطئة.  
أو تأخذنا الحياة الى جبالها التي تمازحك هناك في أعلاه اسراب الغيوم، تلتصق بيديك وتغرق رؤوسنا الصغيرة في زحفها نحو المجاهيل..
جعيتا، الأرز، الهياكل المتدلية، طريق الجبل، ألواح القرميد، جبيل، مرسى الزوارق، الأجساد التي لوحتها الشمس، تنورين، الطرق الملتوية، الجبل الأخضر، المرأة المسنة التي عملت لنا خبزا بالزعتر (مناقيش أم غسان)، تناولنا التين الأسود والتفاح بألوانه، العاقورة، شلالات أفقا المغيري، الشمس المحجوبة خلف الغيم، ظهرت ثانية ونحن نقترب من نهر ابراهيم، الوادي السحيق، طبرجا، وفي الليل يتحول الشجر الى غابة سوداء.. كلما عدت الى مكان الدخان المنفوث من سيدة المقهى الممشوقة أتذكر قصيدتي عن نساء الكون.