صخب الشاعر

ثقافة 2021/04/14
...

  عبدالزهرة زكي
 
أحياناً تكون حياة الشاعر، وما يصادفه من تجارب فيها، أهمَّ من شعره. في مثل هذه الأحيان يظفر الشاعر بقيمة أخرى، سلباً أو إيجاباً، هي غير القيمة الشعرية.
الصلة ما بين حياة الشاعر وشعره صلة وثيقة، فالتجربة الشعرية تغتني وقد تشحب وربما تضمحل بموجب الصلة والتفاعل أو التضارب ما بين قوتين؛ قوة الذات وقوة مؤثرات الحياة والمحيط. وهذه أحكام توجب التفصيل الذي لا مجال له في هذا المقال المعني أساساً بأهمية حياة الشاعر أحياناً حين تكون هذه الأهمية أكبر من قيمته الشعرية، بحيث أن بعض الشعراء تتأتى قيمته من قيمة دوره في الحياة.
في شعرنا العراقي المعاصر، مثلاً، نصادف أنموذج الشاعر الراحل حسين مردان، وهو شاعر عاش حياته بأسلوب فيه مما يلفت الانتباه أكثر مما يمكن أن يستخلص من نصوصه. 
قدرة حسين مردان على التمرد في حياته الشخصية كرسته كشاعر متمرد، وكان من التمرد بحيث كان مبكراً حتى في الدعوة إلى الخروج على تقاليد القصيدة العربية التقليدية، لكن حصيلته الشعرية من هذه الدعوة كانت لا تتعدى كونها نصوصاً متواضعة بالقياس إلى قيمة التجربة الحياتية للشاعر من جانب وبالقياس من جانب آخر إلى طبيعة دعواته للتجديد والتحول. وحسين مردان بعد ذلك هو في شعره التقليدي أنضج بكثير من حسين مردان في نصوص شعره الأخرى (نثره المركز)، في حين هناك مردان الثالث، وهو الشاعر في الحياة الأكثر قيمة واختلافاً وأثراً وحضوراً من الأول التقليدي والثاني المجدد في
الشعر.
ما ظلّ يحضر من حسين مردان بقوة في الحياة الثقافية بعد رحيله هو حسين مردان المختلف والنافر والمتمرد في حياته وليس في شعره حتى وإن كان قد جازف وغامر ودعا إليه من أجل (تغيير) الشعر. الدعوة للتغيير لا تكفي ليكون الشاعر مغيراً، ذلك أن التغيير يجري التعبير عنه نصياً، من خلال نصوص الشعر وليس من خلال الدعوات التبشيرية. وقد ينطبق هذا على كثيرين ممن عاشوا حياة صاخبة وممن اكتفوا بصخب الحياة بديلاً عن الصخب الشعري المتوقَّع منهم والذي كانوا هم أيضاً ينشدونه. يكون الشاعر صاخبا ومغامرا ومغيرا بقدر ما يظفر به من نصوص تعبر بجدّ خلاق عن فحوى الصخب والتغيير
 والمغامرة.
أحياناً تكون صلة الشاعر بالشعر هي دافعه للتمرد والاختلاف في حياته وسلوكه اليومي وحتى تحطيمهما. الشعر لا يغير الحياة والتاريخ لكنه قادر على تغيير حياة الشاعر وعلى صناعة تاريخه الشخصي. وهذا أثر يظلّ متوقعاً دائماً من الشعر والشعراء. لكن المشكلة بعد ذلك تظهر حين يمضي السلوكُ في الحياة باتجاهات هي أكبر من قدرة الشاعر على ضبط ذلك التوازن المعقد ما بين الشعر والحياة، كيف تكون التجارب في الحياة معيناً شعرياً لا قوة مدمّرة؟، هذا سؤال تصعب الإجابة عنه لكن الجواب العملي عليه هو فقط الممكن، إنه الجواب الذي تقدمه إرادة الشعر وإمكاناتها، وكيف يجري تصريفهما وضبط توازنهما مع
 الحياة.
ما هو مهم بالنسبة للشاعر هو الشعر، وأيضاً فإن ما يأمله الآخرون من الشاعر هو الشعر. مسؤولية الشاعر الأساس هي في ضبطه الكيفية التي تكون معها الحياتان الشخصية والعامة وتجاربه فيهما دافعاً غنياً ومصدراً حيوياً ومستمراً للتوليد
 الشعري. 
بالتأكيد أن التاريخ يحفظ للشعراء، ولغيرهم أيضاً، نتائج سلوكهم ومواقفهم ولكن من دون أن تثلم أو تعزز هذه المحفوظات شيئاً من القيمة الشعرية للشاعر ومدى مشاركته بتغيير الشعر. ولعل في محاكمة حسين مردان عن ديوانه (قصائد عارية) تأكيدا على الطابع الثقافي والتاريخي لتجربة الشاعر وديوانه مع المحاكمة، إنما القيمة الشعرية اعتبار آخر يمكن الوقوف عليه من خلال النقد، ومدى قدرة نصوص الديوان على تحدي الزمن في المحافظة على موقعها في تاريخ الشعر. والشيء نفسه ينطبق على سلوكه الحياتي وجنوحه نحو العبث والفوضى، النقد والقراء يظلون يتحرون أثر هذا السلوك في التعبير الشعري والنجاح أو الإخفاق في تمثل ذلك السلوك شعرياً.
حالياً يجري استذكار حسين مردان إنما كمغامر في حياته، إذ تتقدم المغامرة والسلوك المتمرد في الحياة اليومية على القيمة
 الشعرية.في موازنة أخرى يمكن لشاعرٍ ما أن لا يعبأ بالقيمة الشعرية كما يقدرها الآخرون في حياته أو بعد مماته، سيكون انسجامه مع نفسه وإخلاصه لتفكيره وقناعاته هو الأهم بالنسبة له في حياته. غير أن هذا شأن آخر طبعاً مجاله علوم أخرى ليس من بينها النقد
الأدبي.