حسين رخيص لم يقتل أحداً

ثقافة شعبية 2019/02/10
...

جاسم عاصي
 
 
لم تشغلني وأنا أصغي إلى معلومة .. إن تمثال الثائر( حسين رخيّص) قد حدث عليه تغيير. لأننا اعتدنا بين زمن وآخر ، اعادة طلاء نُصبنا  في غفلة من أشعة الشمس وزخات المطر والريح الصرصر . لهذا ذهبت حيث تكون الحكاية من متنها الشعبي الذي لا تلعب فيه الأهواء، لا لأن الحكاية ضمن ذاكرة قاع الحياة فحسب ، وإنما لأنها الأصدق رؤية ، تلك هي شفاه الذاكرة الشعبية، بعيدا عن أهواء المؤرخين وميولهم. فقد سمعت الحكاية مراراً من أبي أو بعض معارفي الذين يكبروني تجربة قبل أن يكبروني سناً . يوم مشهود في مدينة الناصرية ، بعد أن استتبت أقدام الاحتلال البريطاني زحفاً من فم الجنوب أيضاً ..؟! كان اليوم قد شهد صباحه مشهداً لم يعتده أهل المدينة القابعة بين فمين حادّين هما فم (الفرات) وصدره العالي آنذاك ، وفم (أبو جدّاحة) الذي إذا غضب لا يقف في وجهه مقاوم ــ
 كما يقول الراوي ــ ، خرج الجنرال( جفردسون) الذي يلقبه العامّة بـ ( جفرد) . خرج مزهواً على حصانه المطهم ، يحيطه الجُند الفرسان من كل الجوانب ، على يمينه ويساره ، خلفه وأمامه . لكنه كان شجاعاً . وهذا حق يُقال ، حتى لو لم تقل الحكاية . كان يتقدمهم بزهو وكبرياء . 
اجتاز السوق الطويل الذي تحفه الدكاكين والمقاهي والمغازات ، ثم انحنى إلى اليسار كما لو أنه يعرف منعطفات ودروب المدينة ، دخل إلى قيصرية البزازين (بائعي القماش) . كان الجميع يترك عمله في الدكان ، لكي يخرج ويقف قرب عتبة دكانه ليرى ما لم تره عيناه . سار( جفرد) بأبّهة لا تُضاهيها أُبّهة ، وكان يتمهل في مشيه ، أي يسير بحصانه خبباً . لا يدري أحد بما ينسجه من قصيدة اعتاد العرب أن ينعتوها من بحر الخبب مسايرة لانتقال حوافر الحصان على الأرض الهشة . 
يوزع الابتسامات والتحيات إلى من يمر على عتبات دكاكينهم ، شاعراً باعتزاز محتل منتصر ، بينما الناس تأخذهم الروية في ما يرون . 
وحين وصل نهاية السوق المسقف ، أي عند زاوية اتخذها في ما بعد الحاج(عثمان ) دكاناً له يشرف على منحنيين من السوق ، يقابله زاوية فتح فيها رجل تطلق عليه النساء(زمبور) وهذا ليس اسمه ، فهو بائع لمفردات حاجات النساء من ازرارات وقرّاصات شعر وأصباغ وجود وشفاه ، بما يسمى دكان ( الخرازية ) الآن .حين توسط المنعطف الفرعي ، وكما تقول الحكاية ، توقف عند نقطة اختارها ، ولا يدري أحد لِمَ اختارها ، ترجل من على فرسه ، فبدا طويلاً كما قال الراوي ، مزيّن صدره بالنياشين ورموز التكريمات بينما كتفه يحمل رتبة الجنرال . كان محمر الوجه ، أي أنه على عافية مقارنة بوجوه أهل المدينة المصفرة والمجعدة البشرة. سار متهادياً ، فخوراً بنفسه ، واثقا من شخصه . كيف لا وهو الحاكم الأعلى في المدينة ، يأمر وينهي ما شاءت أهواؤه ... فجأة سُمع نداء انطلق من زاوية السوق على عجالة وارتباك ، لكنه صوت الواثق من نفسه ( أجيتك .. جفرد.. وين تروح منّي) سمعه الجنرال بإمعان وعرف معنى النداء، فاستغرب القوم من ذلك ، حيث لم يعلموا أنه تربى وعرف لغتهم ولهجتهم ــ كما ذكر همفرد ــ عن أمثاله. تحرك من مكان ، أو أخذته دورة في نقطته باحثاً عن مصدر الصوت الذي فاجأه صدراً إلى صدر ، لحظتها لم يستطع ولا من معه من استلال أسلحتهم ، لأن الشخص كان شاهراً مسدسه بعزم أكيد . أرتبك الجميع حين أعاد النداء ( إجيتك .. أنه حسين ارخيّص... اتشاهد كَبل موتك ...) هرب (جفرد ) على عجالية ، وبسرعة اختار أقرب دربونة ، دخلها وحسين يجري خلفه ، أدركه بسرعة ،لأن جفرد فوجئ بأنها دربونة لا تخرج . فقط سمع الناس ومن معه اطلاقات ثلاث ، فهرب على أثرها مرافقوه .وما هي لحظات حتى خرج أرخيّص ساحباً جثمانه إلى السوق ، وإذا بمؤذن الجامع النجدي اللهجة يدعو ( بالنعول .. عدكمياه بالنعول ) راح الناس يضربوه بما أوتيت أيديهم من أداة ، حتى جاءت القوة العسكرية وفرّقت الجموع ، وألقت القبض على الملا وكاظم الفحام وآخرين ــ كما تقول الحكاية الشعبية ــ 
وهدأ كل شيء ، سوى آثار دمائه على أرض الدربونة ، وأثر الرصاصات الثلاث اللائي أصبنه في رأسه وطالت باب أحد الدور ، فحفرت على سطح خشبها أثراً لا يمكن محوه . اعتقل هؤلاء ،حيث عرف الناس بخبر نفيّهم إلى الهند ، والحكاية تقول دام نفيهم عشرون عاماً ، وبعد أن عادوا وجدوا بيوتهم يملأها  الأحفاد .بينما (حسين أرخيّص) سيق إلى أجله المرسوم . لكن الحكاية وان انتهت بقتل جفرد على يد ارخيّص ، فإن لها ملحقاً ، قال تفاصيله أحدهم ، وهو راو من هذا الزمان دلل على أن دربة الحكاية وسحرها وبلاغتها لا يوقفها الزمن ــ كما ذكر الباحث باسم حمودي ــ في كتابه (سحر الحكاية) ، بل أن القائل أثارني قوله ، ومحى تصوّري من أن تمثال (حسين أرخيّص) تغيّر . ولما كنت غير فاهم لفحوى القول ، قصدته ووقفت على وجوده . كان (ارخيّص) لوحده على المنصّة ، يلوح بمسدسه في الهواء ، ملابسه نظيفة ، وذات طلاء خاكي مائل إلى الصفرة . 
كانت هياته العسكرية كاملة ، تامة كما يقول العرف العسكري.. من أنه على قيافة تامّة ... فقد زينه الفنان بما يمتلكه من قدرة فنية ، بعد أن انصاع إلى مقترح لا يدري مصدره ، في أن يضع ارخيّص لوحده على المنصة ، أو يفصله عمن رافقه كل هذه الحُقب ، فقد قررا أن يفترقا . ولأنه لا يحب القيل والقال ــ كما تقول ــ الحكاية المعاصرة ، نفذ ما يريده الأسياد ...لكن سؤاله انحصر بمرارة كما هي عندنا وعند غيرنا عبر مسيرة الزمن وانشطارها إلى أسئلة قصيرة لا أريد الاجابة عليها : الأول أين جثمان الجنرال جفرد، الذي كان يرقد تحت قدم ارخيّص تحت ثقل بسطاله الضخم نسبياً ؟ والثاني : من الذي أمر بسحبه ؟أما الثالث : هل إن إرادة المحتل الذي لن ينسى المصاب الجلل الذي أصابه جرّاء هدر قيمة جفرد وليس القيمة العليا للشعب العراقي آنذاك. فرغم مرور عشرات السنين حتى يومنا هذا .. فقد أُعيدت كرامة الجنرال( جفرسون) من قبل أهله وحكومته . وهو أمر جلل نحسدهم عليه . نحسدهم على صبرهم الطويل هذا علينا نحن الذين لا نعي التصرف بحكمة ودراية . بينما يسير زمننا بإرادتهم نحو طريق الهدر الذي لا ينتهي ؟؟!! لذا سأقول وبحكمة الحكاية المصاغة الآن ( إن حسين ارخيّص المسكين لم يقتل أحداً !!) ، غير أن القوات البريطانية حال وصولها إلى مدينة الناصرية ، حتى قصدت تمثال ارخيص وبادرت بإمطاره بوابل الرصاص حتى نخبت كل جسده ، وأخرجت جثمان ( توماس جفرسون) من تحت قدميه ، بعدها عوقبنا بدلاً عنه في 
زماننا المر..!!