شكر حاجم الصالحي
رحم الله جدتي أم عطية (ونسه المشعل) المولودة عام 1888م في قرية السادة جنوب ريف مدينة الحلة، والتي كانت تمتع أسماعنا بمختارات مما تحفظه عن ظهر قلب من أشعار شعبية ونحن نتحلق في ليالي الشتاء حول موقد النار وأدوات إعداد الشاي ورغم أن الجدة لا تقرأ ولا تكتب إلا أنها كانت لا تنقطع عن إسماعنا أجمل ما لديها من (دارميات) تحكي لنا قصصها بأداء تمثيلي معبّر.
من أجمل ما علقَ في ذاكرتي الطرية أواسط ستينيات القرن الغابر، هذا الدارمي الذي يشير الى واقع المرأة في المجتمع الريفي الذي لا يقر لها بحقوقها وحريتها في اختيار شريكها واحترام إنسانيتها:
بالعجد رايـــح راد ولفي اعله ريبه
ما تنفع اويه الناس غيــــــر النهـــيبه
وقبل قراءة جوهر البيت ودلالاته لا بُدَّ من توضيح بعض مفرداته لإعمام الفائدة، فـ(العجد) هو الزقاق أو الدربونة، والريبة هي الخوف، و(النهيبه) تلك هي أخذ المبتغى بالقوة رغم بغض المجتمع لمقترفيها، والنهيبة من نهب الشيء، سرقه، وتلك من الممارسات التي شاعت في المجتمعات المتزمتة والكابحة لرغبات العشاق والمحبين.. وتقول أم عطيه في سردها إنَّ فتى من القرية كان يعشق فتاة حد الوله، وتقدم لطلب يدها من أسرتها التي تقيم في ذات القرية، إلا أنَّ الأعراف السائدة لا تشجع على تزويج الفتيات من غير أبناء العشيرة، مما استحال على الفتى نيل مراده رغم تعلق الفتاة به، وتوسط وجوه القرية في التدخل لإقناع أسرة الفتاة ولكن من دون جدوى، ولم يكن أمام الفتى غير الاستمرار في محاولاته، وظل مواظباً على إبقاء جذوة عشقه ملتهبة في مثل هذه الظروف القاهرة، وليس بمقدوره أنْ يديمَ أشواقه لفتاته غير الذهاب والإياب خلسة في (عجد) المحبوبة لعلّه يحظى برؤيتها ويشم عبير روحها الهائمة، واستمرت الحال هكذا حتى تسرب الجزع واليأس الى روح الفتاة فأرسلت مع واحدة من صويحباتها هذا البيت من الدارمي لتنقله الى فتاها العاشق، طالبة منه أنْ (ينهبها) من أهلها ويهرب بها بعيداً عن القرية ليتم زواجه منها، لكنْ تردد الفتى وخوفه من عواقب فعلته إضافة الى ما سيحدثه من شرخٍ اجتماعي في علاقة الأسرتين كل هذه الأسباب منعته من تلبية رغبة فتاته، وانتهت القصة كما تقول الجدة وأصيب المحبوب بالسل الرئوي ووفاته كمداً وهو لما يزل شاباً في الرابعة والعشرين من العمر، حدث ذلك في أربعينيات الزمن القاسي الذي لم تتوفر فيه الرعاية الصحية المناسبة، وهكذا حزنت القرية كلها على فقدان الشاب (هاشم) الذي مات قهراً ولم ينل من أحبها وصار حديث الناس في تلك الأيام، وإزاء ما حصل اضطرت أسرة الفقيد الى الرحيل عن القرية لأنها لم تعد قادرة على رؤية من كان السبب وراء موت الفتى الشاب (كما تعتقد) وكان الاثنان الفتى والفتاة ضحية الأعراف السائدة والتقاليد القاسية التي أدت الى وفاة هاشم وعزوف المحبوبة عن الاقتران بغير من أحبت حتى صارت مثلاً للوفاء والصبر على احتمال الأذى والإذعان لمشيئة الأهل وظلمهم الذي كان وراء هذا الموت المبكر والوقوف بوجه المحبين ورغباتهم الإنسانية.
وما عادت هذه الأعراف ضابطة لعلاقاتنا الاجتماعيَّة ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين وقد نالت المرأة لا بل انتزعت بعض حقوقها وأصبح لها الرأي في الاختيار ولو بحدودٍ ضيقة، وتلك هي سنّة التطور في الحياة وتراجع الأفكار السوداء الى جحورها المظلمة.
وأخيراً... الرحمة لأم عطية راوية قرية السادة التي أمتعتنا بالجميل من قصص وأشعار الحب. ورحم الله العشاق الأوفياء، وسيظل:
بالعجد رايـــح راد ولفي اعله ريبه
ما تنفع اويه الناس غيــــــر النهـــيبه
في ذاكرة من عاش أحداث قصة روميو وجوليت بنسختها العراقيَّة التي ولدت في بساتين قرية السادة العذاريَّة وانطفت في جمرة التقاليد والأعراف
البالية.