المفاخرة في الملاحم

ثقافة 2021/04/15
...

طالب عبد العزيز 
ارتبطت بدايات الشعر في ثقافة الشعوب قديماً بالملاحم وقصص الحروب، ولم يُعرف الشعرُ خارج ذلك إلا قليلاً، فهو يُكتب ليُقرأ ويُنشد، ولهذا شيّدت الامبراطورياتُ القديمة في أثينا وروما واسبارطة وغيرها المسارح والمدارج، وجعلت منها أكبر صروح مدنها ليقف الشعراء عليها منشدين قصائدهم، ومتغنين بأمجاد ملوكهم وقادتهم المنتصرين، ويبدو أن شعر الملاحم - وهو أهم ما تم تداوله في العصر الحديث- مثل أوذيسة هوميروس 850 ق.م أو إلياذة فرجيل 19-70 ق. م أو المهابهارتا الهندية 400 ق.م وغيرها، أتخذ من الحرب والبطولة وأمجاد الملوك مادته الرئيسية، حيث لم تردنا قصائد الغزل والحب أو مديح الطبيعة إلا بعد أن أشبعَ دارسو الملاحم هذا الفنَّ بحثاً وعنايةً. وعلى خلاف مادة الملاحم تلك، التي اقتصرت على الحرب وبطولات الملوك والانتقاص من الخصوم، وبالضد من آلية الانشاد الممسرح جاءت ملحمة الملك جلكامش، الذي حكم بلاد سومر في الفترة بين 2900-2350 ق-م ولعلها أقدم شعر ملحمي في التاريخ- لتمنحنا نصاً انسانياً كونياً، صادقاً، ومعبّراً تعبيراً مثالياً عن جدوى وجود الانسان في الحياة، من خلال طرح الاسئلة الكبرى، والتي تفنن الراوي بالهروب من الإجابة عنها، لتظل سرّأً أزلياً، ضمن سلسلة سعيه وبحثه عن خلاصه، والذي وجده وبواقعية مطلقة في الحب والجنس والعيش الى جوار الخصم الازلي(الموت) في رحلته العجيبة الى العالم السفلي، فيما ذهبت كل النصوص غير الرافدينية الى ما هو أرضي ومعلوم الاجابة عنه، ويقيناً فأن نصَّ الملحمة استوعب فكرة الحياة والخلود، هذا الشاغل الذي ما زال الى اليوم قائماً، بينما عجزت عن تأمينه كل النصوص بما فيها السماوية، التي لم تذهب أبعد من الوعود والآمال. ضمن المقاربة هذه تبدو لنا الحضارة الرافدينية أشمل وأدق في تعاطيها مع مفردات الحياة، فنصوص الملحمة تقول لنا على سبيل المثال بأن الانسان محكوم بعدد من السنين، لذا عليه استثمارها في الحراثة والغرس والزواج، وانجاب الابناء والشرب والطعام، وأنَّ الصراع بين البشر غير مجدٍ، وما نهاية المعركة بين جلجامش الملك والاله وانكيدو البشري إلا الدرس الابلغ للإنسان بعامة، وعبر التاريخ كله، والذي يتجلى بنداء عشتار لجلجامش التي تقول له: تعال يا جلجامش، وكن عريساً لي/ هبني ثمارك هدية/ كنْ زوجا لي / سآمر لك بعربةٍ من ألازورد، عجلاتها من ذهب وقرونها من كهرمان/ وبيتاً ملفوفا بشذى الأرز/ قبلت المنصَّةُ قدميك، وانحنى لك الملوك والحكام والأمراء/ يضعون غِلّة السهل والجبل أمامك/ ستحمل عنزاتك توائم ثلاثة، ونعاجك مثنى/ وسيبزُّ حمارُك أثقال البغال/ وخيولك تطبق الآفاق شهرةً بجريها/ أما ثيرانك فلن يكون لها تحت النير نظير.