أ.د.عمرو هشام محمد
لا يخفى على أحدٍ أن الموازنة العامة لأي دولة هي إنعكاس لفلسفة تلك الدولة في إدارة الاقتصاد وتوجيهه الوجهة التي تراها تخدم مصالحها بالشكل الأفضل، ولأن الموازنة العامة يمكن تعريفها باختصار شديد بأنها «تقدير وإجازة»، ولأنها تقديرية لمدة سنة واحدة، فيمكن من متابعة الارقام التي ترد في مشروع الموازنة العامة معرفة توجهات الحكومة الانفاقية والايرادية واحتمالية العجز والفائض لمالية الحكومة وما يمكن ان يؤول إليه الاقتصاد نتيجة ذلك.
ولإنها إجازة من السلطة التشريعية الى السلطة التنفيذية اقتضى ذلك أن تكون هناك رقابة من الأولى على الثانية، وكذلك التعاون بينهما وتغليب مصلحة الوطن والمواطنين بشكل عام، لا تنافس على مغانم ومكاسب فئوية أو انتخابية أو مرحلية، قد تترك آثاراً كارثية في البلد بأسره منها أن تفقده جزءا من استقلالية قراره وبحبوحته المعيشية في سنوات
لاحقة.
وفي هذا الإطار أخيراً تم التوافق بين القوى السياسية الممثلة في البرلمان العراقي على مشروع قانون الموازنة العامة الاتحادية لسنة 2021 وتخطت تجربة السنة السابقة 2020 بكل تداعياتها «الصحية ممثلة بجائحة كورونا والاقتصادية ممثلة بانهيار أسعار النفط العالمية»، والتي لم تشهد إقراراً لموازنة الحكومة، وتم الاعتماد على أحد بنود المادة 13 الواردة في قانون الادارة المالية المعدل رقم 6 لسنة 2019، والتي تنص بالسماح لوزير المالية بالصرف على قاعدة 1/12، وهي وجدت للحالات الطارئة التي قد يمر بها البلد، لا أن تكون عكازاً لفشل القوى السياسية قي البرلمان في حال عدم توافقها.
وعلى أي حال يمكن أن ننظر للنصف المملوء من القدح، والذي يتمثل بالآثار الايجابية المتوقعة للاقرار، فنجد أن النسخة المعدلة هذه قد نجحت في تقليص العجز المخطط من 71 تريليون دينار الى 29 تريليون دينار وبسعر تحوطي لبرميل النفط عند 45 دولار، ومع الارتفاع الفعلي الذي تشهده الاسواق العالمية للطاقة وتخطي سعر نفط برنت حاجز الستين دولارا «وهذا ما يحتاجه الاقتصاد العراقي على أقل تقدير»، وإذا ما حافظت حكومة السيد الكاظمي على حد معقول ومقبول من الانضباط المالي في نفقاتها العامة، فمن الممكن أن تكون هناك أخبار مفرحة للاقتصاد العراقي بشكل عام، وللموازنة العامة بشكل خاص بأن تتحول من حالة العجز الى
الفائض.
ومن الآثار الايجابية المتوقعة الأخرى لاقرار الموازنة أنها تساعد على البدء بتنفيذ المشاريع الاستثمارية وإكمال المتوقف منها أو قيد التنفيذ، وهي المشاريع التي تتعلق بالبنى التحتية وتحقيق التنمية الاقتصادية والبشرية في أي بلد، كذلك فإن إطلاق دفعات المقاولين وتسديد مستحقات الدائنين مؤسسات وأفرادا كالفلاحين، كل ذلك يعزز من الثقة في الاقتصاد العراقي ويعطيه زخماً جديداً ومصداقية أكبر. وهناك نقطة مهمة جداً تثار عن التوظيف في القطاع العام وايجاد فرص عمل للخريجين الشباب، فما بين مطرقة ارتفاع فاتورة تعويضات الموظفين وسندان أفواج الخريجين الشباب من حملة الشهادات الأولية والعليا، تتعالى الدعوات لايجاد فرص عمل لهم، ولأن القطاع العام في دولة ريعية كالعراق يتضخم ويستوعب أكبر من طاقته شأنه شأن الاقتصادات الريعية الأخرى، ولكن تبقى مسؤولية الحكومة أن تستخدم الموازنة العامة من خلال أداة النفقات العامة بايجاد محرك لنمو الاقتصاد العراقي والتوظيف بشكل منضبط ومستدام .
وأخيراً هناك نقطة أثارت جدلاً كبيراً، إذ صحيح أن هذه الموازنة ابتعدت عن الاستقطاع الضريبي الاضافي من رواتب المواظفين أو غيرها، إلا أنها اختارت الطريق الأسهل وهو تخفيض سعر صرف الدينار العراقي أمام الدولار، الى مستوى 1450 دينارا للدولار الواحد بهدف تخفيف الأعباء الحقيقية لنفقات الحكومة، وبالرغم من أن الاجراء كان ضرورياً للحفاظ على احتياطي العملات الأجنبية لدى البنك المركزي، والحد من فاتورة الاستيرادات التي كانت تخضع لفساد واضح في إدارتها، إلا أن المستوى المبالغ فيه للتخفيض هو الذي يتم الاعـتـراض عليه لآثاره المقابلة في زيادة المستوى العام للاسعار والتضخم، والمساس بمستوى معيشة الأسر الهشة، ناهيك عن تعميق فقر الفقراء، دون وجود آليات حماية حقيقية لهم، وهو ما يتطلب إعادة النظر فيه عند الإعداد لموازنة العام المقبل وتخطي آثار جائحة كورونا بأبعادها المتعددة وتداعياتها الثقيلة.