امتلاك ما ليس لنا

ثقافة 2021/04/18
...

 ياسين طه حافظ
ونحن نعيد قراءة أسطوريات العالم اليوناني القديم، نصوصاً أو نراها أفلاماً، لا نسأل أنفسنا لماذا هذا الاهتمام المستمر بها؟ وماذا يعد لنا فيها؟. هو عالم لم يعد لنا، وقد اختلفت المفردات والطبيعة والعلاقات الانسانية والتنظيمات الادارية... 
فهل هي محاولة منا لأن نستعيد تلك الموضوعات على نحو ماتم التعبير عنها لسبب كامن في طبيعتنا، 
أم ثمة ماهو مشترك، نتحسسه ونجد فيه تعبيراً عن مكنون أو عزاء عن فقد وتشبّث لا بد منه، 
بظلال ما يعوزنا أو ما لم نقله؟
تشبثات بالنجاة والسلامة من البشر أو القدر أو من  ضعفنا بأزاء القوى المخيفة والمتحكمة؟، وهل محاولتنا شبيهة بمحاولاتهم لنبقى أحياء بين قوى متقاطعة؟، أليس وراء هذا إقرار بأن حضارتنا الجديدة وكل المكتسبات، لم تفعل شيئاً جوهرياً لانقاذنا أو حمايتنا أو سلامنا؟، وهل صحيح نكراننا وفي محله، أم هو تعبير عن عدم قناعة أو عدم اكتفاء أو هو رغبة بمزيد مما نلنا، أم من التأكد والاطمئنان، فلا خوف على ماتحقق أو كانَ؟.
حسناً، هل لنا  قدرة على استرداد تلك الروح التي احتضنتها الاساطير والتي قدمها للعصور ذلك الروح الفني، أم اننا نحاول ايجاد شبيه بقتضيه للمتحكم بنا بالمتحكم بهم؟، هل نستدرج جواً ومعنى ونعرف المخفي الانساني وراء ما كان؟، أكانت تلك محاولات خلاص من التيتان المرعبة التي شوهت حياتهم وتشوه حياتنا؟، أهو ابتلاء البشر بما يخيف ويؤلم وما يهدد، وأننا ما نزال بحاجة للأسطورة، للأسطوري فيها، ومن خلال الادب، أو من خلال ضياعنا فيما يفقد الارادة والعقل ويبعد الواقع، أي الى  ما يحرر منها؟.
 نحن ضمن المنظومة الاجتماعية والتنظيمات الادارية، حاصرتنا متطلبات العيش وحاصرتنا التهديدات بارباك هذا العيش او استلابه، لنضطر للطاعة أو الانزواء او الصمت على ما نرى، او لخدمة الخطأ والشر وموالاتهما حتى نسلم.. فما عادت استعادات القديم تقف بوجه الواقع والوعي الجديد. هما الآن اقوى من تلك التي كانت معاناة أو آمالاً. 
فما كان إلا التحول من الاسطوري واشكاله القديمة، الى الأدب. وهو تحول يمثل مظهراً من مظاهر التحول الى الواقعي.
لكن فهم الانسان لأسباب الاحداث وعلل الظواهر – لم يبعده عن نمطية التفكير الاسطوري ولم يحسم المشكلة. فقد انتقلت الكراهات والانتقامات والصراعات القديمة الى الأدب. وفضلاً عن ذلك صرنا نقرأ العجز والضياع. 
لم يخف الإقرار الواقعي بالعجز والاستلاب والمغامرات الخائبة ثم  اللاحل! الانسان الجديد بإيماناته الجديدة، أو قناعاته، لم ينج مما كان يرعبه أو يربكه أو يهدده بالمحق. 
اخبار الصحف لا تنقطع عمن لم يجدوا حلاً، فانتهوا بالغرق أو الانتحار أو الاكتفاء بالهزيمة والابتعاد عن الساحات لينكمش المهزوم في زاوية، بينما صخب العالم حوله مستمر. وليس عبثا صناعة الإلهاء او صناعة النسيان و"المنافي" بما تيسره الطبيعة والكيمياء من "اجواء"، مخدرات ومباريات وسباقات.. فلايمكن النظر الى اتساع تناول المخدرات، بأنها ظاهرة بسيطة مقطوعة الصلة عن تراجيديا الانسان أو محنته في العيش أو في مواجهة المصير. 
ومحاولات التشبه بصاحب السطوة أو القوة الفاعلة  والمتحكم بالمصائر، محاولات تتجدد ولها ابطالها المنتصرون والخائبون او الذين يسقطون ضحايا 
قوى متناوئة سواء اتخذ ذلك شكل منافسات أو"صراعات" تجارية او سياسية أو حتى علمية، كما صرنا نشهد في السباقات الى الفضاء والتنافس التسقيطي بين صنوف العقار في زمن الوباء.. هذه كلها تمثلات جديدة للقديمة التي كانت. الروح هي الروح واشكالات 
الوجود هي هي، والانسان هو الممتحَن الباحث عن حل أو العاجز عن حل.
الانتقال الى العمل السياسي، هو نوع آخر من الانتقال من الاسطوري الى الواقعي. هو يماثل الانتقال الاول من الاسطوري اليوناني القديم الى الادب وما فيه اليوم من دراما ومحن واشكالات فردية وجماعية صعبة، تريح او تؤسف. 
مهما كانت اشكال التحول، هو تحول قناعات وسنجد، وقد وجدنا وما نزال نجد، انتقالات من النص الى العمل وتحقيق المراد المطلوب. وهو انتقال جوهري آخر، من النظر والتأمل الى العمل والانجاز، الى الاكثر واقعية!، فنحن امام مشاريع أعمال جماعية لصد الجوع وتوفير الغذاء أو لبناء سدّ يصد الطوفان. كانت قوى غيبية  مجهولة تنتمي للكواكب تعطي أو تمحق. 
توقف الرعب منها وانتقل البشر الى مهاجمتها، الى الوصول لها، الى لمس وتفكيك حجارتها والى رؤية ابعاد الكون حيث كانت تأتي الخوارق!، لكن الاسطورة لم تختفِ، صارت نوعاً من النشاط العقلي. فثمة نشاطات ومدونات لكشف عوالم متخيلة على وفق منطق ومفاهيم الثقافة الحديثة. 
وتسميتها، الخيال العلمي تسمية دقيقة ودالة. 
هي معاصرة لتطور الفعل والعلوم، من ناحية أخرى ثمة مظهريات يصطنعها مدَّعو العبقرية للظهور بمظهرالاسطوري أوغير الطبيعي- هذه عموماً اقرب للطرافة وتدعو للضحك، فقد صار كل شيء خاضعاً للفهم العلمي وتصورات الثقافة العقلانية.
بقيت حالتان بينهما شبه، حسن ان نختم الكلام بهما: كانت معارك الالهة القديمة والانتقامات، بين الالهة "أنفسهم" أي بين القوى المتحكمة بالمصائر وكان البشر هم الضحايا. ومعارك اليوم بين الاقطاب السياسية، بين القوة المتحكمة بالمصائر، وايضاً البشر هم الضحايا.. فهل عدنا الى البدايات الاولى، الى اللاجدوى؟، وان كل الجهود وكل التضحيات كانت وما تزال، لامتلاك ماليس لنا؟ يبدو اننا سنظل ننتقل من أسطوري الى أسطوري، وحيثما وصلنا نشعر أننا لم نصل!.