تقنية الأصوات المتعددة في «شوارع مقفرة»

ثقافة 2021/04/20
...

 محمد سعد قاسم
 
الراوي هو الشخص الذي يسرد القصة، لذا فإنه هو الذي يتصل بالقارئ بشكل مباشر، ويكون له تأثير كبير في توجيه مشاعره وتحديد قناعاته وخياراته. ومنذ بدايات ظهور الرواية قبل قرون عديدة، هيمن على السرد راوٍ واحد. وظهر نوعان من الرواة: الشخص الثالث والشخص الأول. 
الشخص الثالث هو راوٍ لا يظهر في الرواية لكنه يعرف أدق التفاصيل عن الأحداث والشخصيات. لذا يطلق عليه عادةَ «الراوي العليم» في حين أن الشخص الاول يروي الأحداث وكأنها تجاربه الشخصية عبر استخدام الضمير (أنا). وبذلك تصبح الرواية كأنها مذكرات شخصية والراوي هنا لا يعرف عن القصة أكثر مما يشاهده أو يسمعه هو. ولكن سريعا أدرك الروائيون أن سرد الأحداث عبر راوٍ واحد لا يعطي الإحساس بالحصول على الحقيقة كاملةَ. فالحقيقة في الغالب تأتي من تعدد الرؤى. وكلما كان هنالك المزيد من وجهات النظر عن الاحداث اقترب القارئ أكثر من الحصول على الحقيقة الكاملة. ومن هنا ظهرت ما تعرف بتقنية الأصوات المتعددة في السرد الروائي إذ يتولى السرد اثنان أو أكثر من شخصيات الرواية.في رواية «شوارع مقفرة» الصادرة عن دار سطور 2020، يوظف الروائي الدكتور سعد قاسم الأسدي اسلوب الأصوات المتعددة في سرد أحداث روايته بما يعطي شعورا قويا بالواقعية. في الرواية تتناوب ثلاث شخصيات رئيسة على سرد الأحداث، هي «ماجد» و»باسمة» و»لمياء». كل شخصية تسرد الأحداث من وجهة نظرها التي تناقض أحيانا نظرة الشخصية الأخرى أو تكمّلها في الأقل. 
على سبيل المثال، يبدأ ماجد بسرد الأحداث من وجهة نظره الخاصة محاولا تفسير ما يراه ويلمسه من أحداث، ولكن يتبين سريعا أنه راوٍ غير موثوق به بسبب عدم قدرته على تشخيص كثير من الشخصيات والأحداث بطريقة صائبة، لاسيما شخصية رئيس المنظمة التي يعمل لديها وكثرة وساوسه بشأنها وشخصية باسمة، الفتاة الجميلة التي تعمل في قسم الحسابات في تلك المنظمة. ويتجلى قصوره في موقفه تجاه تلك الفتاة المعذبة التي يظنها انتهازيةَ استمرأت طريق الشر ومشت فيه بغير رجعة. 
ولكن حين تشرع باسمة بالسرد يرى القارئ شخصيةَ مختلفةَ تماما عمّا قدّمه ماجد، وهي بدورها تقدم نظرةَ عن العالم الذكوري حولها تتسم بالشك والعدائية والرغبة بالهرب والابتعاد. والنظرة هذه تأتي بالنظر إلى تجاربها الشخصية في هذا المجتمع حيث استعباد المرأة واحتقارها والتعامل معها وسيلةَ للترفيه والكسب المادي. ويشكّل التناقض والتصادم بين وجهتي النظر هاتين نقطة الارتكاز التي تدفع أحداث الرواية إلى الأمام وتطورها. وحين تتم تسوية الخلاف ويحصل الاتفاق والتفاهم تسير الأحداث سريعا حتى الوصول إلى الذروة.
أما الراوي الثالث في الرواية فهي الفتاة الشابة «لمياء». ممرضة في مستشفى الكرخ الجمهوري. وتتسم الفصول التي ترويها هذه الشابة بهيمنة صوت العقل والحكمة، لذا يأتي سردها معززا للحقائق. وبصوتها الهادئ الرصين يكون لسردها تأثير إيجابي على القارئ بسبب الإيمان بحيادية ما تقول وعدم ميلها للمجاملة أو المداهنة. وعلى الرغم من أن لها متاعبها الشخصية الخاصة، فإن إحساسها المرهف بآلام الآخرين يعطي صوتها بعدا إنسانيا يسمو بها عما يحيط بها من أعمال عنف وإجرام ويرفع من شأنها في أعين القراء.
وهكذا يمكن القول إن الأسدي قد نجح في رواية «شوارع مقفرة»، ومن خلال توزيع عملية السرد بين أكثر من شخصية من شخصياتها، في خلق صورة متكاملة عمّا يريد قوله عن عام 2006 والمآسي التي حصلت فيه عن طريق خلق تناغم وانسجام بين الآراء المختلفة للرواة المتعددين. 
فاستطاع من خلال تقنية الأصوات المتعددة في السرد أن يبعد القارئ عن الانجذاب إلى شخصية راوٍ واحد والتعاطف معه والتأثر به بسبب رؤية الأحداث كلها عبر عينيه، وإنما جاء برواة متعددين لكل منهم رؤيته ووجهة نظره عن الأحداث، الأمر الذي يجعلنا نحن القراء مدركين لرؤى مختلفة عن الأحداث وواعين كذلك بالطريقة التي تؤثر بها الأحداث على علاقات الشخصيات، فنكتسب معرفةَ بكل شيء في النهاية من خلال رؤية العالم عبر عدسات متعددة.