الدين والدولة أية علاقة؟

آراء 2021/04/20
...

 سرى آل جواد *
يشير الباحثون إلى أن ظهور مصطلح «رجال الدين» كان في أوروبا، حينما كانت تخضع لحكم الكنيسة، التي جعلت من نفسها مشرّعا، واحتكرت الاجتهاد والرأي، في القرون الوسطى. 
ومع ظهور الإسلام وتأسيس دولته، لم يكن هذا المصطلح معروفًا على المستوى التداولي، وإنما المصطلح الذي كان مستعملًا،  هو مصطلح «العلماء»، ذلك أن العالِم في العرف الإسلامي هو المتخصص في العلوم الدينية أو الشرعية، لينقل علمه إلى الناس ليعرفوا دينهم ويعملوا بأحكامه، وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا المعنى في عدد من آياته. 
وعليه ثمة فرق كبير بين رجل دين وعالم دين. فعلماء الدين هم من يعملون بالعلم والوسطية، ويزيدون من تقريب الناس نحو الإنسانية والسلام. 
وعلى الرغم من هذه الحقيقة نجد هنالك من يتعمد الخلط بين المصطلحين، فتراه يستعمل مصطلح رجل الدين، للدلالة على من يتحكّم بأمور الدين، ويحتكر المعرفة الدينية لصالح توجهاته، وهؤلاء يحملون بعض قيم التطرف. 
ويبدو هذا الخلط مقصودًا من قبل البعض، وينطلي على الناس البسطاء، وتقوم به شخصيات وجهات تندرج تحت مسمّى الإسلام، والمبتغى من ذلك هو حشر الدين عنوة بمفاصل الدولة كلها لتسيير متطلبات، قد تكون شخصية وفردية لكنها مغطاة بغطاء شرعي، والتي أفضت إلى أن الحكم يجب أن يكون مصدره الشرع الإلهي ويحاولون تصدير أنفسهم للناس، بوصفهم قائمين على الدين وشؤونه. 
هذه أهداف أيديولوجية لحركات الإسلام السياسي المعاصرة، والتي تهدف إلى الاستحواذ على السلطة. الأمر الذي يفاقم مشكلة الدولة والمجتمع. 
ونجد داخل هذه المجتمعات أصواتًا تتعالى ناتجة عن اختيار الابتعاد عن الفكر الديني و الفصل بين الشرع والسياسة، حيث يدور الجدل حول ضرورة تحرير الدولة من هيمنة الدين وسلطته، وفي الوقت نفسه تحرير الدين من هيمنة السياسة ورجالاتها، كما هو شائع في نماذج معاصرة، وفق منظور يعالج مسألة السلطة ومرجعياتها.
ويحتدم الجدل أيضًا في تلك الأوساط حول  "فصل الدين عن السياسة"، لتتفرع إلى مجموعة من الآراء، فهنالك من يراها الحل الأمثل لإشكالية دمج الديني بالسياسي وتنحية الدين عن الدولة، ومنه من يدعو إلى ضرورة التمييز بين الديني والسياسي، مع عدم إسقاط المرجعية الإسلامية، وبين من يرفضها رفضا قاطعا لاصطدامها بشمولية الإسلام المهيمنة على مختلف شؤون الحياة، بحسب المفاهيم المؤسسة للحركات الإسلامية المعاصرة. وهذه المناداة جاءت نتيجة تطورات في الشؤون السياسية والأوضاع الاقتصادية مرَّ بها المجتمع نتجت عنها تحوّلات فكرية ممّا يجبر البعض  للدعوة إلى فصل السياسة عن الدين أو إبعاد الدين عن هيمنة السياسة. وهذا يأخذنا إلى المنطلق الأول لمفهوم رجل الدين وعالم الدين، فإذا كان رجل الدين أو إمام المسجد عبارة عن موظف عند رجل الدولة فهو يبدو مسلوب الإرادة؛ لأنه لا يستطيع عمل عملًا ما إلا ما يمليه عليه مديره، ولا يستطيع القول إلا بما يتوافق مع رؤية المسؤول، وفي حال رفضه يتم تغييره بموظف آخر، وقد يجد رجل الدين مسوغا لطاعة الحاكم، مستندًا في ذلك على قول النبي (ص): " السمع والطاعة حق" مقتطعا من النص الجزء الأهم فيه،  وهو: "ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
الإشكالية التي يقع فيها الناس هو وضع القدسية لمن يرتدي الزي الديني، أو من يدعي العلّمية والتدين ويتبعونه، واذا ما خالف هواهم نادوا بوجوب فصل الدين عن السياسة لصالح تشكيل دولة مدنية. وينبغي هنا التمييز بين مفهوم الدين ومفهوم الدين السياسي، فالدين يطلق عادة ويراد به مجموع التعاليم المقدسة الصادرة عن مصدر إلهي أو مصدر بشري ذي مكانة دينية عالية،تخول له البت في أمور الدين والاجتهاد فيه، في حين أن الدين السياسي يحيل على الممارسة الفردية أو منظمات وأحزاب سياسية، تتبع كما تدعي الشريعة في تسيير أمور الدولة، يعني تحويل الدين عن أهدافه السامية إلى تحقيق مصالح سياسية ذاتية لفئات بعينها، وجعل الدين وسيلة لهذه المصالح. ومن المؤكد أن هناك فرقاً بضرورة التفريق بين ما يقوله الدين وما يمارسه السياسي في حياته المهنية باسم الدين. إن «تسييس الدين» يعنى استخدامه كحصن لبعض القوى السياسية عن طريق اكساب أفعالهم  قداسة وشرعية. فلا يمكن تحميل الدين مسؤولية أعمال مؤسسات الدولة عندما تتخلى عن واجباتها إزاء البلد أو حين تستخدم الأحكام الشرعية، التي تؤول لتمرير ممارسات تنتهك فيها حقوق الإنسان أو تتجاوز بها استحقاقات وشروط النهضة بمجتمعها، من خلال رفض تبني أفكار هدفها بناء مجتمع واعٍ، وبعيدا عن الأطر التي قد نختلف أو نتفق معها ؛ لا يزال الدين  العباءة المناسبة للكثير من الأهداف والغايات السياسية التي لا تنفع المجتمع إنما تنفع أفرادًا. وإذا كان هذا المفهوم الديني والسياسي المغلوط هو ذلك الكل الذي يشكل نظرة المجتمع للدين ورجاله كان الأولى وبمن ينادي بالمدنية؛ عقلنة وعيه الفكري وإبعاد هذه المغالطات التي توهم الناس أنها من المسلمات. وأن يعترضوا على "احتكار" السلطة للدين.
ولابد من  ترسيم العلاقة بين السلطتين وإرساء مفهوم لكل منها كمجال مستقل نسبياً عن أساس ومبادئ نظيره. باختصار، إذا كان "تسييس" الدين أمرا خطيرا فإن المواجهة المثلى معه تكون في سياق بناء نهضة فكرية توعوية بين أفراد المجتمع لابد منها مراعيا ثقافة شعبه ومنظومته القيمية والحضارية.