أ.د عامر حسن فياض
كما عرضها عالم الاجتماع الالماني (ماكس فيبر) توزعت الثقافة السياسية في كل مجتمع بين ثلاثة انواع هي الثقافة التقليدية وثقافة الخضوع وثقافة المساهمة، وكما يرى (الموندو و فربا) فالثقافة التقليدية تنسجم مع بنى سياسية قديمة، غير متمركزة ان لم نقل مبعثرة، بينما تتلائم ثقافة الخضوع مع بنية سياسية سلطوية ممركزة، واخيرا تتلاءم ثقافة المساهمة مع بنية سياسية ديمقراطية .
والجدير ذكره ان هذه الانواع الثلاثة من الثقافات لا توجد بصورة خالصة مستقلة عن بعضها في المجتمع بل هي متداخلة في ما بينها، ولكن قد تبدو واحدة منها مهيمنة، وقد تبدو بعضها متعايشة مع البعض الآخر حسب المستويات الثقافية والحضارية للسكان في المجتمع، وتلك المستويات لا تنفصل عن مستويات التطور العام الذي يعيشه
المجتمع.
وفي العراق نتلمس حتى الآن تلك الانواع الثلاثة من الثقافات، وسبق ان كتبنا بأن الثقافة التقليدية في العراق لم تكن المسعف الاساسي في اقامة بنية سياسية ديمقراطية، رغم انها حتى الآن لم تقف عائقا في طريق تشييد مثل هذه البنية، بيد ان العائق يبقى متمثلا بثقافة الخضوع التي ستبقى غير متنازلة عن التعامل مع انواع الثقافات الاخرى من موقع المهيمن والمعيق لإقامة بنية سياسية ديمقراطية.
بمعنى دق أن ثقافة الخضوع لا تسعف في حل اشكاليات اقامة بنية ديمقراطية ولا في تعزيز الوحدة الوطنية في العراق، بل انها ستشكل النقيض لبنية سياسية ديمقراطية.
وتلك الثقافة هي التي هيمنت على العراق على امتداد تاريخه الحديث، وما زالت هيمنتها فاعلة وتحكم عقلية وممارسات القوى المتنفذة بقدر ما تحكم الثقافة التقليدية القواعد الشعبية العريضة، الامر الذي يقلص الفرص امام فاعلية ثقافة المساهمة في تشييد البنية الديمقراطية في العراق، لأنها ثقافة وليدة من جهة ولأن أخطر المخاطر على الديمقراطية هو خطر ممارستها من قبل غير الديمقراطيين من
جهة.
متى تكتمل او نتلمس اكتمال ونضج ثقافة المساهمة في العراق، كيما تكون قادرة على تشييد بنية ديمقراطية حقيقية في هذه البلاد؟
إنَّ ثقافة المساهمة تقوم على ركيزتين الاولى هي حقوق المواطنية والثانية هي المشاركة في صنع القرار، وبذلك فإن نضج ثقافة المساهمة يعتمد مواطن على مستوى عال من الوعي بالامور السياسية، لا يسمح للقلة الانفراد باتخاذ القرار بل يقوم بدور فعال ومشاركة غير صورية في الحياة السياسية، ليسهم في الوصول الى القرار الافضل، وتلك المشاركة هي حق من حقوق
المواطنة.
وفي هذا السياق ستعني الثقافة السياسية المساهمة مشاركة فعالة من القاعدة المجتمعية التي تفرض ارادتها على الساحة وتنبثق منها السلطة
السياسية.
لذلك فإن المرتكز الرئيس للسلطة السياسية في ظل سيادة ثقافة المساهمة على الثقافات الاخرى، سيتمثل بالقاعدة المجتمعية، وان ارادة السلطة ضمن هذا المعنى ستكون مرتكزة على الارادة المجتمعية وتستمد منها قوتها وشرعيتها
واستمرارها.
بيد أن الثقافة السياسية المساهمة لا تتطلب بالضرورة مشاركة مباشرة من جميع افراد المجتمع في صنع القرار، ذلك ان مثل هذا المطمح غير ممكن عمليا، الا من خلال قنوات تمثيلية منتخبة ومنظمة يتحقق فيها ومن خلال قدر من المشاركة في اختيار من يكون لهم دور مباشر في صنع القرار.
وبعد تحقق كل من حقوق المواطنة والمشاركة المجتمعية في صنع القرار، ستمثل الثقافة السياسية المساهمة تعبيرا عن مصالح الانسان العراقي، وتدافع حقا عن الاستقلال الوطنية والتحرر الاجتماعي مبشرة بمستقبل عراقي جديد يتصدى لكل اشكال الثقافة الاستعمارية والغيبية اللتان تهدفان الى تدمير الوطن والشعب والانسان
والثقافة.
كما ان الثقافة السياسية المساهمة ستصبح مستلزما مهما من المستلزمات السياسية لحل اشكاليات التحول الديمقراطي وتعزيز الوحدة الوطنية في عراق اليوم والغد. ومن دون سيادة هذه الثقافة وشيوعها فإن الخوف، كل الخوف، ان تظل التحولات الديمقراطية والوحدة الوطنية في عراق اليوم والغد كالاحجار الكريمة في مستنقع آسن بالركود
والتخلف.