حراثة المفاهيم

فلكلور 2021/04/28
...

       سعيد الغانمي
 
بعثتْ لي الأستاذة ندى فاضل الرُّبيعيّ مادة علق فيها أحدهم عن الحوار الذي دار معي في برنامج (المحايد) من تقديم الأستاذ سعدون ضمد، وما كتبه الأستاذ فاضل الرُّبيعيّ في كتبه المنشورة. ويبدو أنَّ للأستاذ الربيعيّ وجهةَ نظرٍ تتعلَّق بكون اليهوديَّة والمسيحيَّة لم تظهرا في فلسطين، بل ظهرتا في اليمن. ولما كان الأستاذ سعدون محسن ضمد، مقدِّم البرنامج، قد سألني عن رأيي في التَّثليث الوثنيِّ عند الحضر حول عبادة (سيِّدنا وسيِّدتنا وابن سيِّدينا)، وهي موضوعة تطرَّقتُ لذكرها في كتابي (حراثة المفاهيم)، فقد كان ردِّي محصوراً بالتَّثليث الوثنيِّ في الحضر، مع الإشارة إلى التَّثليث المصريِّ. ولم يخطرْ ببالي قطُّ التَّعرُّض للتَّثليث المسيحيِّ، ولم أذكره في أيِّ عملٍ من أعمالي
 المنشورة.
لكنَّ قسماً من المتلقِّين، ممّن يتوهَّمون إلغاء الوقائع التاريخيَّة ويحلمون باستبدالها بالاستيهامات الفرضيَّة، ولستُ أدري لماذا يراد أن يفرض عليَّ أن أتطابق مع رأي الأستاذ الرُّبيعيِّ. ويشعر قارئ المادَّة، أنَّه كتب مقالته على هذا الأساس، ودون أن يطَّلع على أيٍّ من أعمالي.
بالنسبة إليَّ، لقد قرأتُ عدداً من الكتابات والبحوث التي تريد زحزحة القناعات التاريخيَّة الثابتة وإخضاعها للأهواء الأيديولوجيَّة. وليس من شكٍّ في أنَّ أشهر مثال على ذلك هي كتب الباحث الرُّوسيِّ فيليكوفسكي الكثيرة، مثل (أوديب وإخناتون)، و(عصور في فوضى)، و(أرض في جيشان)، و(رمسيس الثاني وعصره). وهي أعمال تتناول التَّوراة تناولاً حرفيّاً، وتريد إكراه الوقائع على التَّطابق معها. وهكذا رأى أنَّ أوديب في الأسطورة اليونانيَّة هو إخناتون، وأنَّ بلقيس هي الملكة الفرعونيَّة حتشبسوت، إلى آخرِهِ. بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين فسَّرَ التَّواريخ المبالغ فيها في التَّوراة على أساس أنَّ الطَّبيعة كانت تخضع لقوانين أخرى غير القوانين المعروفة الآن. وإذا وجدنا ملكاً حكم آلاف السِّنين، فهذا صحيح، لأنَّ السنين حينئذٍ كانت أقصر ممّا هي عليه الآن. 
وتصطدم جميع أعمال فيليكوفسكي بفاصلٍ زمنيٍّ بين الوقائع التاريخيَّة الثابتة والتاريخ البديل الذي يقترحُهُ، لا يقلُّ عن خمسمائة سنة. ولذلك فإنَّ أبحاثه تستهوي أخيلة القرّاء ذوي النُّزوع الفنِّيِّ والخياليِّ الجامح، لكنَّها تنطوي على مادة لا يمكن أن يقبلها المؤرِّخون والآثاريون وتتناقض مع مناهجهم
الدَّقيقة.
ويصحُّ الشَّيء نفسه على كاتبٍ يهوديٍّ اسمه جورج ساسون أصدر كتاباً بعنوان (من سومر إلى أورشليم)، يدَّعي فيه أنَّ السُّومريين لم يختفوا من الوجود، بل هم رافقوا النَّبيَّ إبراهيم في رحلته من أور الكلدانيين إلى مصر وفلسطين، وقد استوطنوا في السامرة. واليهود الموجودون الآن هم بقايا السُّومريين، وليسوا من الساميين، ولا هم من أبناء عمومة العرب، كما يرى. وكتابه مليء بالفكر العنصريِّ الكريه. وكذلك الحال يصحُّ بالدَّرجة نفسها على الكتاب الذي ألَّفه أحد البحّارة بعنوان (العثور على سفينة نوح). 
وقد أعرض أغلب الباحثين المدقِّقين عن مناقشة هذا الكتاب، ورفضتْ مجلَّة (ناشنال جغرافك) التَّعليق على موضوعته، ويصحُّ كذلك على كتاب مشابه لكاتب إيرلنديٍّ رأى أنَّ (حرب طروادة)، لم تقع في غرب تركيا في منطقة (حصارلك)، بل في دبلن، عاصمة إيرلندا.
كموقفٍ شخصيٍّ، أعتقد أنَّ من حقِّ أيِّ مؤلِّف أن يصدر أيَّ رأيٍ يشاء، سواء أكان يختار زماناً مختلفاً أو مكاناً مختلفاً، ما دام خلواً من الفكر العنصريِّ والأحكام المسيئة للآخرين، لكنَّ أمر مناقشة العمل يظلُّ خاضعاً للمعايير التاريخيَّة، وليس لمعايير الاستيهام والأخيلة والأهواء. ويُخيَّل لي أنَّ الأستاذ جرادات لم يطَّلعْ على أيٍّ من أعمالي المنشورة. مع ذلك فقد حكم استناداً إلى رأيٍ في حوار تلفزيونيِّ أناقش فيه موضوعةً مختلفةً. وفيما يتعلَّق بما ذكره حول تضحية الابن، ففي رأيي المتواضع، لا توجد موضوعة كهذه. 
بل هناك موضوعة تضحية البطل الثَّقافيِّ، الذي يُحدث انشقاقاً في المجتمع، ثمَّ يقبل بالموت طواعيةً. وقد سمَّيتُ هذه الظاهرة بالموت الملحميِّ للبطل، وناقشتُها بالتَّفصيل في كتابي (فاعليَّة الخيال الأدبيّ) .لا أعتقد أنَّ من حقِّ القرّاء (ونحن للأسف نتحدَّث عن مستمعين لم يقرأوا) أن يفرضوا على الباحثين أن يتطابقوا مع رأي باحث آخر لمجرَّد أنَّه يلبِّي استيهاماتهم وأخيلتهم التَّعويضيَّة. 
أمّا التَّعليقات الموتورة الصادرة من عبدة الدكتاتوريّات الحاقدة على التُّراث العراقيِّ فأرتفع بنفسي عن الرَّدِّ عليها، وأدَّخر وقتي لما ينفع الناس ويمكث في الأرض.